28‏/02‏/2021

قوانين الطبيعة البشرية 30

 قوانين الطبيعة البشرية 30


كن هدفا متلاعبا مرغوبا فيه

( قانون الطمع)

للغیاب والحضور آثار كبیرة فینا، فالحضور الكثیر یخنقنا؛ وشيء من الغیاب ینشط اهتمامنا، كذلك فإن فینا صفة الرغبة المستمرة في امتلاك ما لا نملك من أشیاء تصوِّرُها لنا مخیِّلاتنا؛ فتعلَّمْ أن تصنعَ شیئًا من الغموض من حولك، وتستخدمَ غیابك المخطَّط لتجعل الناس یرغبون في عودتك، وتجعلهم یرغبون في تملُّكك، ولوِّح للآخرین بما یفتقدونه في حیاتهم أعز الافتقاد؛ وما هم ممنوعون من الحصول علیه؛ فتشعل فیهم حمَّى الرغبة، فالعشب دائمًا أكثر خضرةً في الجانب الآخر من السیاج، وعلیك أن تتغلب على نقطة الضعف هذه عندك، بأن تعیش الرضا بظروفك، والرضا بقدَرك.


 الشيئ المرغوب فيه

قصة كوكو - شانيل

في سنة 1895 ، كانت الطفلة غابرییل شانیل ذات الأحد عشر ربیعًا،تجلس إلى جانب أمها المریضة؛ أیامًا متواصلة؛ وهي تموت ببطء أمامها، بعد إصابتها بداء السل، وهي في الثالثة والثلاثین من عمرها، لقد كانت حیاة غابرییل حیاة قاسیة، لكنها الیوم باتت تزداد قسوة وشدة، فقد نشأت غابرییل مع إخوتها في حیاة فقر وفاقة؛ وكانوا یتنقلون من بیت إلى آخر من بیوت الأقارب، وكان أبوهم بائعًا جوالًا، یبیع الحاجیات البسیطة، وكان یكره أي نوع من الارتباط أو تحمل المسؤولیة، ونادرًا ما كان یأوي إلى بیته؛ أما أمهم التي كثیرًا ما كانت ترافق زوجها في الطرقات، فكانت ملاذ الارتیاح الوحید في حیاتهم.

وبعد بضعة أیام من وفاة الأم حصل ما كانت غابرییل تخشاه؛ فقد حضر والدها وأودعها مع أختیها في دیر؛ یقع في وسط فرنسا، ووعدهن بالعودة إلیهن في وقت قریب جدا؛ إلا أنهن لم یرینه مرة أخرى. وكانت راهبات الدیر؛ اللاتي یُقِمن في دیر قدیم مبنيٍّ في العصور الوسطى تعتنین بالبنات بكل أطیافهن، وكانت غالبیة البنات یتیمات، وكانت الراهبات تفرضن علیهن قواعد سلوكیة صارمة. وداخل الجدران الداكنة في الدیر، المزدانة بزخارف خفیفة، كان على البنات أن یعشن حیاة التقشف والأعمال الروحیة، فكان لكل منهن ثوبان فقط؛ متشابهان، ولا ملامح ممیزة لهما، وكانت وسائل الترف محظورة علیهن، ولم یكن ثمة أنغام موسیقیة تُسمَع، خلا الأنغام الكنسیة. وكان طعامهن بسیطًا للغایة، وحاولت غابرییل في شهورها الأولى في الدیر أن تتكیف مع هذا العالم الجدید، إلا أنها ضاقت ذرعًا به.

 

وفي أحد الأیام اكتشفت غابرییل وجود سلسلة روایات عاطفیة داخل الدیر، جرى تهریبها بطریقة ما إلى الدیر؛ وسرعان ما وجدت فیها ملاذها الوحید، وكانت الروایات من تألیف بییر دیكورسیل، وقد نسجها جمیعًا تقریبًا على منوال یشبه قصة سندریلا؛ فتاةٌ صغیرة، تنشأ في بیئة فقیرة، یتجنبها الناس ویزدرونها، وتجد نفسها فجأة تندفع إلى عالم الغنى؛ في حبكة روائیة متقنة. فكان بوسع غابرییل أن تحس بإحساس بطلات تلك الروایات أعظم الإحساس؛ وكانت تحب على وجه الخصوص الوصف المسهب للثیاب التي كن یلبسنها، وبدا لها عالم القصور المترفة بعیدًا كل البعد عنها، لكنها في اللحظات التي كانت تبحر فیها في عوالم الروایات، واحدة بعد أخرى، كانت تشعر بنفسها جزءًا من حبكة تلك الروایات، فأكسبها ذلك رغبة جارفة في أن تتحقق الروایات، حتى لو كان محظورًا علیها التطلع إلى أشیاء من هذا القبیل، وكان من الظاهر أنه یستحیل علیها الحصول على تلك الرغائب بعیدة المنال.

 

وفي سن الثامنة عشرة، غادرت غابرییل الدیر، لتنتقل إلى مدرسة داخلیة؛ تدیرها الراهبات أیضًا. وتدربت هناك على مهنة الخیاطة. وكانت المدرسة تقع في بلدة صغیرة، وبینما كانت تستكشف تلك البلدة ما لبثت أن عثرت على هوًى جدید یشدُّها إلیه؛ إنه المسرح؛ فقد أحبت كل شيء في المسرح، أزیاءه، ودیكوراته، ومكیاجاته. لقد كان في نظرها عالمًا من التحول یمكن لأي إنسان فیه أن یتحول إلى إنسان آخر، فأصبح شغلها الشاغل أن تغدو ممثلة وتشتهر في المسارح. واتخذت لنفسها اسمًا للتمثیل في المسرح، وكان (كوكو)، وجربت كل الأدوار المسرحیة من التمثیل، إلى الغناء، إلى الرقص؛ فقد كان لدیها طاقة كبیرة، وجاذبیة آسرة؛ إلا أنها أدركت بعد وقت قصیر أنها تفتقر إلى الموهبة التي توصلها إلى النجاح الذي ترغب فیه.

 

وبعد أن تقبلت الأمر بدأت السعي نحو حلم جدید، فكثیرات من الممثلات اللاتي لم تكنَّ تكسبن ما یكفیهن للعیش من مهنة التمثیل كن یتحولن إلى مومسات، لیحصلن على المال الوفیر من الأخدان الأغنیاء، وكانت لتلك النسوة خزائن ضخمة للثیاب، وكن یمضین أینما شاء لهن الهوى؛ وكان المجتمع الفاضل ینبذهن؛ ولم یكن یقیدهن استبداد الأزواج، وكان من حظ غابرییل أن أحد الشبان الذين استمتعوا  بغابرييل علي المسرح ، دعاها لتقیم في قصرٍ له، قریبٍ من المسرح، وكان اسمه إتیان بَالْسَان .

وكان إتیان قد ورث ثروة كبیرة من عائلته، فكان یعیش حیاة رفاهیة مطلقة. وقبلت غابرییل، التي أصبحت لا تعرف إلا باسم (كوكو) عرضه.

وكان القصر یغص بالمومسات؛ اللاتي كن یتدفقن جیئة وذهابًا، من كل أنحاء أوروبا، وكانت بعضهن من صاحبات الشهرة، وكن جمیعًا جمیلات ساعیات في ملذات الدنیا، وكانت حیاتهن بسیطة نسبیا؛ محورها ركوب الخیل في الأریاف الفرنسیة، ثم إقامة الحفلات المترفة في الأمسیات الهادئة، إلا أن الفوارق الطبقیة كانت واضحة، فإذا حضر النبلاء أو علیة القوم إلى القصر كان على النسوة اللاتي على مثال كوكو أن یتناولن طعامهن مع الخدم، ویبقین بعیدات عن الأنظار.

 

وبعد أن وجدت غابرییل نفسها لا تفعل شیئًا، وعاودها الشعور بالضیق من جدید، أخذت تقوم بتحلیل نفسها، ودراسة المستقبل الذي ینتظرها، وكانت طموحاتها عظیمة، إلا أنها كانت تبحث دائمًا عما هو أبعد من قدراتها، فتحلم باستمرار بمستقبل یستحیل قدومه؛ فقد بدأت أحلامها بالقصور التي ترسمها الروایات العاطفیة، ثم تحولت إلى الحیاة الفخمة على خشبة المسرح؛ لتكون على شاكلة الممثلة الفرنسیة سارة برنار؛ أما آخر أحلامها فكان سخیفًا عبثیا، فلم تكن المومسات البغایا إلا نساء جمیلات شهوانیات، وبدت كوكو بینهن كأنها صبي، فلیس لدیها انحناءات أنثویة في جسدها، ولا هي من صاحبات الجمال التقلیدي؛ بل كانت تفتن الرجال بحضورها وحیویتها؛ إلا أن ذلك لا یدوم، فكانت كوكو ترید باستمرار ما عند الآخرین، متخیلةً أن فیه كنزًا مخبَّأً. وحتى إذا تعلق الأمر بأزواج نساء أخریات أو أخدانهن، كانت غایة رغباتها أن تسرق منهن رجالهن؛ وهو أمر فعلته في بضع مناسبات، إلا أنها كانت كلما حصلت على ما تریده من اتخاذ أخدان وعیش في القصور كانت تشعر لا محالة بخیبة أملها من الواقع، فكان

ما یرضیها في النهایة لغزًا غامضًا حتى بالنسبة لها

.

وفي أحد الأیام، ودون أن تفكر بإمعان فیما كانت تفعله، دلفت إلى غرفة نوم (بَالْسان)، واستلَّت بعض ملابسه، وأخذت ترتدي ملابس من ابتكارها وحدها، فارتدت قمصانه ذات الیاقة المفتوحة، ومعاطفه الصوفیة الخشنة؛ مع بعض أثوابها؛ ووضعت على رأسها قبعة من القش یرتدیها الرجال، وبینما كانت ترتدي تلك الملابس، لاحظت أمرین: فقد شعرت بقدر عظیم من الحریة، وهي تطرح عنها مشدَّ الخصر الذي ترتدیه المرأة، ورداءَ المرأة الضیق الذي تلبسه تحت ثیابها، وتطرح ما تجعله المرأة على رأسها من مستلزمات زینتها وأناقتها، ثم استمتعت بما نالته من اهتمامٍ ممن حولها من نوع جدید؛ فالمومسات الأخریات بتن ینظرن إلیها نظرة حسدٍ لا یكتمنه، فقد فتنهن هذا الزي المخنث. وكانت هذه الملابس الجدیدة تناسب قوامها جیدًا، ولم یسبق أن شاهد أحدٌ امرأةً ترتدي الثیاب بهذه الطریقة. حتى (بالْسان) نفسه أُخِذ بها. وعرَّفها بخیَّاطه؛ وبناءً على توجیهاتها قام الخیاط بتفصیل زي صبي لركوب الخیل ببنطال ضیق. وعلمت نفسها ركوب الخیل، لكنها لم تركبها ورجلاها الاثنتان على أحد جانبي صهوة الحصان؛

كما تفعل سائر النساء. فقد كانت حیویةً بطبعها، وأصبحت في غضون أشهر خبیرةً بركوب الخیل. وغدا الناس یرونها تتجول في كل مكان على صهوة جوادها بزیِّها الغریب.

ومع تقدمها بهذه الشخصیة الجدیدة، اتضحت لها أخیرًا طبیعة رغباتها المبهمة: فقد كانت ترید القوة والحریة التي عند الرجال، وهو ما ظهر علیها في ملابس الرجال الأقل تقییدًا لها من ملابس النساء، وأضحت تحس بأن المومسات الأخریات، والنساء في القصر، یمكنهن الانسجام مع تلك الملابس، فقد كانت تلك رغبة مكبوتةً داعبَتها، رغبةً یفوح عبقها في الهواء الذي تتنفسه. وفي غضون بضعة أسابیع، أخذت بعض المومسات تزُرنها في غرفتها، وتجربن قبعات القش التي زینتها بأشرطة وریش. وإذا ما قورنت هذه القبعات بالقبعات المنمقة التي كان على النساء أن یشبكنها على رؤوسهن، فإن هذه القبعات كانت تبدو بسیطة یسهل ارتداؤها، وأصبحت المومسات یتجولن في البلدة مرتدیات قبعات شانیل على رؤوسهن، وما لبثت النساء الأخریات في البلدة تسألن عن المكان الذي یمكنهن شراؤها منه، وعرض علیها (بالسان) أن تستخدم شقةً له في باریس، لتنطلق منها في صنع الكثیر من قبعاتها؛ لعلها تدخل عالم التجارة. وقبلت كوكو

عرضه بكل سرور.

 

وسرعان ما دخل حیاتها رجل آخر؛ إنه إنكلیزي ثري اسمه آرثر كابل، أثارته بدعة مظهرها، وطموحاتها الكبیرة، وغدا الاثنان من العشاق الأخلَّاء، وأخذ كابل یرسل صدیقات زوجته النبیلة إلى شقة كوكو، فما كان أسرع أن اشتعلت موضة قبعاتها، وبدأت كوكو تبیع مع القبعات بعض الثیاب التي صممتها، وكلها لها المظهر المخنث الذي كانت ترتدیه، وكانت تصنعها من أقمشة جُورْسِیه الرخیصة؛ فبدت ثیابها تعطي قدرًا من حریة الحركة للمرأة؛ یختلف كل الاختلاف عن ملابس المرأة السائدة. وشجعها كابل على افتتاح محل تجاري في بلدة دوفیل عند شاطئ البحر، حیث یمضي جمیع الباریسیین من المغرمین بالموضة فصل الصیف . وتحول ذلك إلى فكرة نموذجیة: فهناك  في تلك البلدة الصغیرة نسبیا الملأى بأناس یراقب بعضهم بعضًا، والغاصَّة بالنساء المغرمات بالموضة أكثر من أي مكان آخر؛ هناك، یمكنها أن تحدِث ضجة كبیرة بمنتجاتها.

وأذهلت كوكو أهالي البلدة عندما أخذت تسبح عند شاطئ البحر؛ فالنساء لا یقمن بأشیاء من هذا القبیل، وزي السباحة للمرأة لم یكن موجودًا تقریبًا، فقامت بتصمیم لباس للسباحة من منسوجات الجورسیه الرخیصة نفسها، وفي غضون أسابیع كانت النساء یقصدن متجرها طلبًا لشراء الزي الجدید. وكانت كوكو تجوب دوفیل وهي ترتدي ملابسها الممیزة ذات المظهر المخنث، التي یسهل التحرك بها، والتي فیها شيء من الإثارة، نتیجة التصاقها بجسدها، وأضحت كوكو حدیث البلدة. وكانت النساء في استماتة لمعرفة من أین تأتي بملابسها، وكانت هي ترتجل تصمیماتها من ملابس الرجال لتصنع منها طلعات جدیدة للنساء، فقد أخذت إحدى كنزات كابل، وفتحتها، وأضافت بعض الأزرار، فصنعت نموذجًا عصریا من كنزات النساء. وأصبحت هذه هي الموضة في عصرها. وقصت شعرها لیكون قصیرًا؛ لمعرفتها بما یناسب وجهها؛ فغدا ذلك موضة أخرى. ولإحساسها بالزخم فیما تفعله، كانت تعطي ملابسها بلا مقابل للنساء الجمیلات

وذوات الصلات الكثیرة؛ وكن جمیعًا یقصصن شعورهن على مثالها، وعندما كانت هؤلاء النسوة یحضرن الحفلات التي یكثر السعاة إلیها؛ وكلهن تبدون نسخًا من كوكو شانیل؛ كانت الرغبة في هذه الموضة الجدیدة تنتشر إلى ما هو أبعد من بلدة دوفیل، لتصل إلى العاصمة باریس.

وأصبحت دوفیل سنة 1920 ، واحدة من رائدات تصامیم الموضة في العالم، وكانت أعظم من یضع اتجاهات الموضة في عصرها، وأصبحت أزیاؤها تظهر صنفًا جدیدًا من النساء؛ نساء یتمتعن بالثقة، والإثارة، وشيء من التمرد لم یسبق لهن أن كنَّ علیه.

 

ومع أن ملابسها كانت تصنع من منسوجات الجورسیه الرخیصة، إلا أنها كانت تبیع بعض ملابسها بأسعار مرتفعة للغایة، وكانت الثریات من النساء یتسابقن لشرائها؛ لیشاطرن شانیل سحرها، لكنها ما لبثت أن عادت إلى الضیق الذي تحسه في صدرها، فقد أرادت شیئًا آخر، شیئًا أعظم مما وصلت إلیه، طریقة أسرع تصل بها إلى النساء من كل الطبقات. وسعیًا منها لتحقیق حلمها، قررت اتباع خطة لم یطرقها أحد تقریبًا؛ فأرادت صنع عطر خاص بها.

 

ففي ذلك العصر كان من المستغرب أن تقوم دارٌ للموضة بتسویق عطر لها، ولم یكن یعرف عن دور الموضة إیلاء ذلك الأمر أهمیة كبیرة، لكن شانیل كانت لدیها خطة. وهو أن یكون عطرها ممیزًا كتمیز ملابسها، بل وأكثر روعة منها. فكانت ترید منه حقیقةً أن یفوح في الجو فیثیر الرجال والنساء، ویصیبهم بعدوى الرغبة في تملكه، وللقیام بذلك، اتجهت في الاتجاه المعاكس لجمیع العطور حینئذ؛ التي كانت تقترن ببعض أریج الزهور الطبیعي، فبدلًا من ذلك، أرادت أن تصنع عطرًا لا یمكن تحدید مصدره من الزهور. فقد أرادت رائحة أشبه بباقة من الزهور الخالصة، رائحة تبعث على السرور، لكنها بدیعة للغایة، وكانت ترید لعطرها أن یكون له رائحة تختلف باختلاف المرأة التي تضعه، اختلافًا أكبر مما یفعله أي عطر آخر، ولتزید في غرابته، قررت أن تعطیه اسمًا شدید الغرابة، وكانت عطور ذلك الزمان ذات أسماء شاعریة وعاطفیة. إلا أنها أرادت أن یكون اسمه من اسمها، مع إضافة رقم بسیط إلیه، فكان اسمه شانیل رقم 5  وكأنه اسم خلطة علمیة. وقامت بوضع العطر في زجاجة عصریة أنیقة، وأضافت ؛

إلى اسم العطر شعارها الجدید بحرفي C   متشابكین ومتعاكسین. فغدا فریدًا لا یشبه أي

شيء آخر في ذلك العصر.

 

ولتطلق عطرها في الأسواق قررت القیام بحملة ترویجیة مبطَّنة. فأخذت ترش العطر في كل زاویة من متجرها في باریس، فامتلأ هواء المتجر بعبق عطرها. فما برحت النساء یسألنها عن الرائحة؛ وتدَّعي هي جهلها بها. وقامت بعد ذلك بدسِّ زجاجات من العطر -بلا بطاقات تحمل اسمه- في حقائب زبوناتها صاحبات الثراء الأكبر والصلات الأكثر. وسرعان ما بدأت النساء یتحدثن عن هذا العطر الجدید الغریب؛ الذي یلاحقهن، ولا یستطعن تحدید مصدره من الزهور، وأخذت شائعة تقول بأنه ابتكار آخر من ابتكارات شانیل، أخذت تنتشر انتشار النار في الهشیم، فأسرعت النساء إلى متجرها یتوسلن إلیها، لتمكِّنَهن من شراء العطر الجدید؛ الذي بدأت هي الآن تضعه على الرفوف شیئًا فشیئًا، وفي الأسابیع الأولى لعرض العطر كان الطلب علیه أكبر من الكمیات المخزونة منه، ولم یحدث هذا الأمر من قبل في تاریخ صناعة العطور، واستمر الطلب علیه لیكون العطرَ الأكثر نجاحًا في التاریخ؛ وكان له أن جلب الثروة لشانیل. وفي العقدین اللاحقین، سادت دارُ شانیل عالم الموضة،

 

 لكن شانیل في الحرب العالمیة الثانیة تعاطفت مع الألمان، وبقیت في باریس تحت الاحتلال النازي، وبدت تقف إلى جانب الغزاة. وأقفلت متجرها في بدایة الحرب، وفي نهایة الحرب سقطت تمامًا من أعین الفرنسیین، بسبب تعاطفها السیاسي مع النازیین؛ ونتیجة إدراكها لما لحق

بها من خزي فرَّت إلى سویسرا، حیث بقیت في منفًى فرضته على نفسها، لكنها في سنة 1953 ، لم تشعر بالحاجة إلى العودة إلى ما كانت علیه وحسب؛ بل أرادت أن تفعل ما هو أعظم من ذلك ومع أنها آنذاك كانت في السبعین من عمرها، إلا أنها كانت مشمئزة من التوجهات الحدیثة في الموضة؛ التي أحست بأنها عادت إلى سابق عهدها في ملابس المرأة المؤنَّقة بإفراط والمقیِّدة بشدة؛ التي كانت تسعى إلى القضاء علیها، ولعل ذلك كان  علامة على عودة المرأة إلى دَور الخضوع والتبعیة، أما شانیل فرأت فیه التحدي الأكبر؛ فبعد نحو 14 سنة خارج نطاق إدارة الأعمال، نسیها الناس الیوم إلى حدٍّ كبیر، ولم یعد أحد یرى فیها واضعة الموضة الیوم. فعلیها أن تبدأ من الصفر تقریبًا.

 

 

وكان أول تحركاتها بث الشائعات بأنها تخطط للعودة؛ إلا أنها لم تجر أي مقابلات صحفیة. فأرادت إشعال الأحادیث والإثارة، مع إحاطة نفسها بالغموض، وظهرت لأول مرة في سنة 1954 ، وغصَّ متجرها بحشد من الناس جاء لیشاهدها؛ بدافع الفضول على الأغلب. وبعد هنیهةٍ وحسب، سرى إحساس بین الحاضرین بالاستیاء، فالملابس التي عرضتها كانت نسخة معادة الصیاغة من أزیائها في الثلاثینیات؛ مع قلیل من اللمسات الجدیدة. وكانت عارضات الأزیاء جمیعهن تشبهنَ شانیل، وتقلِّدنَ طریقتها في المشي، فكان الجمهور یرى في شانیل امرأة حبیسة، لا أمل لها بالخروج من وراء قضبان الماضي الذي لن یعود أبدًا. وبدت ثیابها وقد عفا علیها الزمن؛ فسخرت منها الصحف، مستذكرةً في الوقت نفسه علاقاتها بالنازیین أیام الحرب.

 

وتعد هذه ضربة قاصمة إلى حدٍّ بعید بالنسبة لأي مصمم أزیاء؛ إلا أنها ظهرت بوضوح غیر منزعجة لكل ما قیل عنها، فكما هو حالها دائمًا: كانت لدیها خطة؛ ولدیها خبرة فیما تفعله. فقد قررت قبل ظهورها لأول مرة في باریس، أن تكون الولایات المتحدة الأمریكیة الوجهة التي تیمِّمُها ملابسها الجدیدة، فقد كانت المرأة الأمریكیة تظهر أحاسیس شانیل على نحو أفضل من غیرها، فكانت المرأة الأمریكیة حیویة، تحب سهولة الحركة؛ وتحب الأزیاء غیر المفرطة في التأنق، العملیة بالدرجة الأولى، وكان ما عند المرأة الأمریكیة لتنفقه من مال یزید على ما عند غیرها في أي بلد في العالم، وعلى نحو ما كانت شانیل متیقنة منه، لاقت أزیاؤها الجدیدة رواجًا في الولایات المتحدة الأمریكیة، وما لبث الفرنسیون أن خففوا من انتقاداتهم لها، وفي غضون سنة من عودتها أعادت بناء نفسها لتكون أهم مصممي الأزیاء في العالم؛ وأعادت الموضة إلى الأشكال البسیطة والتقلیدیة التي كانت تروج لها على الدوام، وعندما بدأت جاكلین كنیدي زوجة

الرئیس الأمریكي السابق بارتداء أزیاء شانیل في كثیر من المناسبات العامة، كانت تلك أوضح علامة على القوة التي وصلت إلیها شانیل في مجال تصمیم الأزیاء.

ومع عودتها إلى مكانها في القمة، كشفت شانیل عن ممارسة جدیدة تخالف تمامًا عصرها، والتجارةَ السائدة فیه. فقد كان تزویر الألبسة مشكلة كبیرة في عالم الأزیاء، وكانت تظهر نسخ مقلدة من التصامیم الأساسیة في أرجاء العالم، بعد عرضها لأول مرة، وكان مصممو الأزیاء یعملون على حمایة جمیع أسرارهم بحرص شدید، ویحاربون في المحاكم أي شكل من أشكال التقلید لتصامیم أزیائهم. إلا أن شانیل فعلت نقیض ذلك. فرحبت بالناس من كل الفئات في عروض أزیائها، وسمحت لهم بالتقاط الصور، وكانت تعلم أن ذلك سیشجع أناسًا كثیرین سیكسبون عیشهم من صنع نسخ رخیصة من ملابسها؛ وقد أرادت هي ذلك. حتى إنها دعت الثریات من النساء إلى إحضار خیاطیهن معهن؛ الذین سیرسمون مخططات لتصامیمها، ویصنعون نسخًا مطابقة لها، فما كان یهمها أكثر من جمع المال أن تنشر أزیاءها في كل مكان، لتشعر بأنها هي وعملها محط رغبة النساء من كل الطبقات ومن كل الدول، وكان ذلك ذروة

الثأر عند فتاة نشأت مهمَلةً، وغیر محبوبة، ومنبوذة. أرادت أن تكسو ملایین النساء؛ وتكون طلعتها، أو بصمتها في شكل أزیائها، بادیة في كل مكان، وهو ما حدث فعلًا بعد بضع سنوات من عودتها.

0 التعليقات: