10‏/02‏/2021

قوانين الطبيعة البشرية 12

 قوانين الطبيعة البشرية 12



أربعة أمثلة على أنماط النرجسیة:

 

1-  نرجسیة السیطرة الكاملة: عندما قابل الناس لأول مرة جوزیف ستالین في الجزء الأول من حكمه رئیسًا لوزراء الاتحاد السوفییتي كان معظمهم یجد فیه شخصیة آسرة إلى حد أنهم ذهلوا به، وعلى الرغم من أنه كان أكبر عمرًا من معظم مساعدیه، فقد شجعهم جمیعًا على مخاطبته بكلمة (أنت) غیر الرسمیة في اللغة الروسیة، ومكن الجمیع من الوصول إلیه حتى صغار موظفیه. فإذا استمع إلیك وجدته یستمع بإصغاء واهتمام، وعیناه تحدقان بك، إنه یبدو كأنه یلتقط منك أعمق أفكارك وشكوكك؛ إلا أن سمته الأبرز كانت في جعلك تشعر بأنك إنسان مهم، وبأنك جزء من حاشیته المقربة من رجال الثورة، وستراه یلف ذراعه على كتفیك وهو یرافقك خارجًا من مكتبه، وینهي لقاءه بك دائمًا بملاحظة ودیة رقیقة، وقد كتب شاب بعد ذلك یقول: إن الناس الذین رأوه كانوا تواقین لرؤیته مرة أخرى؛ لأنه خلق عندهم الإحساس بأن هناك رابطة تجمع بینهم وبینه إلى الأبد، وكان أحیانًا یتحول إلى شيء من التحفظ، فیجن جنون حاشیته، ثم یمضي عنه ذلك، فیعودون من جدید إلى التأثر به.

وكان جزء من سحره یعود إلى حقیقة أنه یلخص الثورة، فقد كان رجلًا من عامة الناس، قاسیًا وفظا بعض الشيء، لكنه شخص یمكن لسواد الروس التوافق معه، وعلاوة على كل شيء، كان جوزیف ستالین مسلیًا جدا، فقد كان یحب أن یغني، ویروي الدعابات السمجة؛ ولا عجب أنه بهذه الخصال حاز السلطة شیئًا فشیئًا، وتولى السیطرة الكاملة على الصناعة السوفییتیة، لكن بمرور السنین، ونمو سلطته، بدأ یتسرب جانب آخر من هذه الشخصیة. فالود الظاهر لم یكن بالبساطة التي بدا علیها، ولعل أولى العلامات البارزة على ذلك بین حاشیته المقربة ظهرت في مصیر سیرجي كیروف وهو عضو نافذ في المكتب السیاسي للحزب الشیوعي، وكان أقرب

أصدقاء ستالین إلیه، وأعظمهم ثقة عنده؛ بعد انتحار زوجة ستالین سنة 1932، وكان كیروف إنسانًا حماسیا، ورجلًا بسیطًا إلى حدٍّ ما، یسهل علیك أن تصادقه؛ وكان ستالین یطمئن إلیه، إلا أن شعبیة كیروف بدأت تزداد بعض الشيء، وفي سنة 1934 تقدم إلیه بعض القادة الإقلیمیین بعرض یقولون فیه: إنهم سئموا من معاملة ستالین الوحشیة للفلاحین؛ وبأنهم سیثیرون انقلابًا، ویریدون أن یضعوا فیه كیروف رئیسًا للوزراء، إلا أن كیروف بقي على إخلاصه لستالین، فكشف مؤامرتهم لستالین، الذي شكره بالغ الشكر، إلا أن شیئًا ما تغیر في سلوكه مع كیروف منذئذ، فحل بینهما جفاء لم یسبق له أن كان بین الرجلین.

 

وأدرك كیروف المأزق الذي جعل نفسه فیه، وكشف لستالین بأن شعبیته لم تكن بالقدر الكبیر الذي تصوره، وأن هناك في المكتب السیاسي للحزب الشیوعي من یفوقه شعبیة بین الناس، لقد أحس بالخطر الذي بات یحیط به، وحاول كل جهده أن یبدد مخاوف ستالین؛ فعندما كان یظهر أمام العامة كان یذكر اسم ستالین أكثر من أي وقت مضى؛ وأخذ یسترسل في التسبیح بالثناء علیه، إلا أن ذلك لم یؤدِّ إلا إلى جعل ستالین أكثر ارتیابًا به؛ وكأن كیروف كان یسعى جاهدًا إلى إخفاء الحقیقة، وتذكر كیروف الآن الدعابات القاسیة الكثیرة التي كان یلقیها عن نفقات ستالین؛ فقد كانت في وقتها تعبیرًا عن القرب بین الرجلین، الذي جعل كیروف یتجرأ ویهزأ من ستالین؛ أما الآن فلا شك أن ستالین أضحى یراها بمنظور آخر، وشعر كیروف بأنه قد أحیط به وغلب على أمره. وفي شهر كانون الأول/دیسمبر سنة 1934 ، اغتال رجل منفردًا كیروف خارج مكتبه، ومع أنه ما من أحد قال بتورط ستالین بصورة مباشرة، إلا أنه بدا من المؤكد تقریبًا أن القتل قد حصل بموافقته الضمنیة، وفي السنوات التي تلت عملیة الاغتیال جرى اعتقال

أصدقاء ستالین واحدًا بعد الآخر، وأفضى ذلك إلى عملیة تطهیر كبرى داخل الحزب الشیوعي -في أواخر ثلاثینیات القرن المنصرم- أدت إلى إزهاق أرواح مئات الآلاف، وقام ستالین بتعذیب صفوة مساعدیه الذین قبض علیهم جمیعًا تقریبًا لیدلوا باعترافاتهم؛ وبعد ذلك استمع ستالین باهتمام لما یقوله القائمون على عملیات التعذیب، عن التصرفات البائسة لمن كانوا یومًا أصدقاءه الشجعان، وسخر ممن ذُكِر له أنهم كانوا یركعون على ركبهم باكین، متوسلین مقابلة ستالین، لیسألوه الغفران عن آثامهم، ویطلبوا منه تركهم أحیاء، أما هو فكان یبدو مستمتعًا بإذلالهم.

فما الذي حدث له؟ ما الذي غیَّر من كان یومًا رجلًا كان یظهر المودة الخالصة مع أصدقائه المقربین، لكنه في لحظة انقلب علیهم، وأرسلهم إلى حتفهم، لقد اتضحت سماته الغریبة الأخرى، لقد كان ستالین في ظاهره متواضعًا بشدة. فكان تجسیدًا للطبقة العاملة، وإذا اقترح أحدٌ منحه تكریمًا من العامة فإنه یستشیط غضبًا؛ فهو یقول بأنه لا ینبغي لرجل واحد أن یكون مركزاهتمام كبیر، لكنْ شیئًا فشیئًا أخذ اسمه وصورته یظهران في كل مكان، وتأتیك صحیفة البرافدا بأخبار عن كل حركة یتحركها، حتى تكاد تؤلهه.  

وفي عرض عسكري طارت الطائرات فوق رؤوس الجماهیر على شكل أحرفِ اسمه بالروسیة (ستالین) وأنكر أي تورط له في طائفة العبادة المتنامیة حوله، إلا أنه لم یفعل شیئًا لإیقافها.

 

وكان یتحدث بصورة متزایدة كأنه طرف ثالث، أي كأنه أصبح قوة ثوریة غیر شخصیة، وكأنه أیضًا كان معصومًا، فإذا حدث أن أخطأ بلفظِ كلمة في خطاب له، فإن كل من یلیه من المتحدثین كان یخطئ الخطأ ذاته، وقد اعترف أحد كبار مساعدیه قائلًا:

لو أنني قلت الصواب، لشعر ستالین بأنني أصحح له وذلك انتحار.

وعلى نحو ما بدا مؤكدًا، من أن هتلر یعد العدة لغزو الاتحاد السوفییتي، أخذ ستالین یشرف على كل تفاصیل المجهود الحربي، فكان یوبخ مساعدیه على الدوام بحجة تراخیهم في العمل؛ وقال ذات مرة  أنا وحدي من یتعامل مع هذه المشكلات كلها  وسرعان ما شعر كثیر من القادة العسكریین بأنهم في مأزق مزدوج؛ فلو أنهم باحوا بما في عقولهم لشعر بإهانة كبیرة، وإذا وافقوه في الرأي لاستشاط غضبًا، فقد صرخ یومًا في مجموعة من القادة العسكریین قائلًا ما الفائدة من  الحدیث معكم؟ فمهما أقول تجیبون قائلین: نعم أیها الرفیق ستالین؛ طبعًا أیها الرفیق ستالين إنه قرار حكیم، أیها الرفیق ستالین  وفي غیظه من الشعور بالوحدة في الجهود الحربیة طرد أكفأ القادة العسكریین وأكثرهم خبرة عنده، وغدا یشرف على كل صغیرة وكبیرة في المجهود الحربي؛ حتى لو كان الأمر أمر حربة أو ما یشبهها.

 

وسرعان ما أصبح أمر معرفة أمزجته ونزواته أمر حیاة أو موت بالنسبة لمساعدیه، فقد كان من المهم جدا عدم إقلاقه؛ فالقلق كان یجعل منه رجلًا لا یمكن توقع ما یفعل من أمور خطیرة، وعلیك أن تنظر إلى عینیه لئلا یبدو علیك أنك تخفي شیئًا عنه، لكنك إذا أطلت النظر إلیهما، فإنه یصبح عصبیا ومستغرقًا في نفسه، وهو خلیط خطیر جدا،ویفترض بك أن تدون ملاحظات عندما یتحدث، لكن لا تكتب كل شيء، وإلا فإنه سیراك شخصًا مریبًا. وبعض من كان صریحًا معه أفلح بصراحته، إلا أن آخرین انتهى بهم الأمر إلى السجن، ولعل الحل كان في مزج مسحة من الصراحة مع كثیر من الانصیاع، وأصبح اكتشاف ذلك الرجل علمًا من العلوم الغامضة التي یناقشها مساعدوه بعضهم مع بعض.

 

وكان أسوأ ما یمكن أن یحصل لك أن تدعى إلى حفل عشاء، مع حضور فیلم سینمائي، في وقت متأخر من اللیل في منزله، فقد كان من المستحیل رفض هذه الدعوة، وأصبحت هذه الدعوات تتكرر أكثر فأكثر بعد الحرب، وكان الأمر في الظاهر على سابق حاله- أنهم أصدقاء ثوریون مقربون جدا، لكن باطن الأمر كان رعبًا ماحقًا؛ وفي نوبات احتساء الخمر طوال اللیل وكانت خمرته مخففة جدا كان یرقب  فالرجل يجعل تحت ناظریه جمیع مساعدیه الكبار، ویجبرهم على الإسراف في الشرب أكثر وأكثر حتى یفقدوا سیطرتهم على أنفسهم، وكان مغتبطًا في سره برؤیة صراعهم مع أنفسهم؛ وهم یحاولون ألا یقولوا أو یفعلوا ما یدینهم.

 

وكانت نهایة الأمسیة أسوأ ما فیها، فكان ستالین یخرج جهاز الحاكي، لیعزف له شیئًا من الموسیقا، ویأمر رجاله بالرقص، فیجعل نیكیتا خروتشوف رئیس ، الوزراء المستقبلي، یقوم برقصة الغوباك؛ وهي رقصة شاقة جدا فیها الكثیر من جلوس القرفصاء والركل بالأرجل والقفز عالیًا، وهي رقصة غالبًا ما تجعل خروتشوف یشعر بالإعیاء والغثیان، أما غیره فیطلب منهم ستالین الرقص الرقیق الشاعري، بینما یبتسم هو، ویضحك مقهقها ساخرًا من منظر الرجال وهم یرقصون زوجین زوجین. وكانت تلك صورة مطلقة من التحكم: كلاعب الدمى المتحركة، یصمم لدماه حركاتها

 

التفسیر:

 

یثیر النرجسیون أصحاب السیطرة الكاملة الرغبة فیك للتقرب منهم؛ لكنهم یبقونك على بعد خطوة منهم. وكل ذلك إنما هو للسیطرة، فیسیطرون على عواطفك، ویسیطرون على استجاباتك، وفي مرحلة معینة، ومع ازدیاد إحكام قبضتهم على السلطة، نراهم یستاؤون من حقیقة أن علیهم تمثیل حیلة السحر والجاذبیة، فلماذا یلتفتون إلى الآخرین، في الوقت الذي ینبغي فیه للآخرین أن یلتفتوا إلیهم؟!

وهكذا نرى أنهم لا محالة سینقلبون على أصدقائهم القدامى، ویكشفون عن مقدار الحسد والضغینة الذي لطالما اختبأ وراء المظاهر الخارجیة، إنهم یتحكمون بمن یدخل في حیاتهم ومن یخرج منها، من یعیش ومن یموت، وبإنشائهم مآزق مزدوجة لا یرضیهم فیها أي شيء تقوله أو تفعله، أو بجعلهم ذلك یبدو أمرًا اعتباطیا، فإنهم یرعبونك بعدم الاستقرار هذا، لقد أصبحوا الآن یتحكمون بعواطفك.

 

وفي مرحلة من المراحل، تجدهم قد أصبحوا یهتمون بأدق التفاصیل؛ فما عادوا یثقون بأحد، ویتحول الناس في نظرهم إلى آلات، لا تستطیع اتخاذ قرار؛ لذلك یقومون بالإشراف على كل شاردة وواردة؛ فإذا وصلت تلك الأنماط من الناس إلى تلك الحدود المتطرفة، فسینتهون إلى تدمیر أنفسهم؛ لأنه من المستحیل فعلیا أن تقضي على الإرادة الحرة للإنسان؛ فالناس یتمردون؛ حتى في أشد درجات الخوف؛ لقد عانى ستالین في أواخر أیامه من سكتة دماغیة، لكن لم یجرؤ أحد من مساعدیه على مساعدته، أو إحضار طبیب له، فمات نتیجة إهمالهم؛ لأنهم كانوا یخافونه ویبغضونه.

 

ولا بد على الأرجح أن تصادف هذا النمط من الناس في حیاتك، لأنهم بسبب طموحهم یغلب علیهم أن یصبحوا رؤساء ومدیرین، وشخصیات سیاسیة، وزعماء طوائف.

والخطر الذي یحیق بك منهم إنما یكون في البدایة، عندما یبدؤون باجتذابك بسحرهم، وبإمكانك النفاذ إلى داخلهم بتوظیفك تشاعرك الغریزي، فإظهارهم الاهتمام بك لیس عمیقًا مطلقًا، ولا یدوم طویلًا أبدًا، ولا شك أنه سیتبعه صد دلال العابثین، فإذا صرفت نظرك عن سحر المظاهر فإنك ستستطیع الإحساس بالجفاء الذي فیهم، ومستوى الاهتمام الذي یتدفق علیهم من كل حدب وصوب.

 

وانظر في ماضیهم ستجد أنه لم یسبق لهم الدخول في أي علاقة حمیمة عمیقة ناجحة ، وانظر عن أشاراتفي طفولتهم ؛ فستالین نفسه كان أبوه یضربه بلا رحمة، وكانت أمه جافیة معه إلى حدٍّ ما، ولا تعطیه حبها.

0 التعليقات: