21‏/02‏/2021

قوانين الطبيعة البشرية 29

 قوانين الطبيعة البشرية 29


الأصناف السامة من الناس:

 

على الرغم من أن طبع كل إنسان یختلف عن الآخر اختلاف بصمات الأصابع، إلا أنه یمكننا أن نلاحظ عبر التاریخ أصنافًا معینة من الناس لا تفتأ تتكرر؛ ویمكن أن یكون التعامل معها شدید الضرر، وبخلاف الشخصیات واضحة الشر أو الخداع التي یمكنك أن تكشفها من مسافة بعیدة، فإن هذه الأصناف یصعب كشفها. فكثیرًا ما یغرونك بمظهر یبرزون فیه نقاط ضعفهم كأنها نقاط إیجابیة، ولن تتسنى لك رؤیة طبیعتهم السامة المتواریة خلف مظهرهم إلا بمرور الوقت، وغالبًا بعد أن یكون قد فات الأوان، وأفضل دفاع لك في مواجهتهم هو أن تكون مسلحًا بمعرفة هذه الأصناف، وتلاحظ علاماتها في وقت مبكر، ولا تنخرط معهم، أو فارقهم بأسرع ما یمكنك.

 

1-  المهووسون بالكمال: یغریك بالدخول في فَلَكه جِدُّه في العمل، وتفانیه في أن یكون منتجه على أفضل حال، وینفق في عمله ساعات أطول مما ینفقه الكسول في عمله، وقد ینفجر بالصیاح في الآخرین ممن هم دونه؛ لا لأنهم لا یقومون بالعمل على الوجه المطلوب؛ بل لأنه یرید المحافظة على أعلى المعاییر في العمل؛ وینبغي أن یكون ذلك أمرًا جیدًا. لكنك إذا كنت عاثر الحظ، فوافقت على العمل مع هذا الصنف من الناس، أو العمل عنده،فستكتشف حقیقته رویدًا رویدًا، فلا یمكن لأحدهم تفویض الآخرین بالمهمات؛ بل یرید هو الإشرافَ على كل شيء، والأمر لا یتعلق بالمعاییر العلیا والإخلاص للجماعة، بقدر ما یتعلق بالسلطة والتحكم بالآخرین.

 

فهؤلاء المغالون في توخي الكمال، غالبًا ما تكون لدیهم مشكلات في الاعتماد على الآخرین، نابعة من بیئتهم العائلیة، كحال هوارد هیوز - الذي مر بنا آنفًا - ، وأي شعور یداخلهم بأنه قد یكون علیهم الاعتماد في شيء ما على شخص آخر یفتح فیهم جروحًا غائرة ومخاوف بعیدة، فلا یمكنهم الوثوق بأحد، وإذا أدار أحدهم من أصحاب الإدارة ظهره فإنه یتصور أن الآخرین یركنون إلى التكاسل والتراخي، وحاجته القهریة إلى إدارة دقائق الأمور تجعل الناس من حوله یشعرون بالامتعاض، ویقاومونه خفیة؛ وهو بالضبط ما كان یخشاه أشد الخشیة، وستلاحظ أن المجموعة التي یقودها أحدهم غیر منظمة تنظیمًا جیدًا؛ لأن كل شيء لا بد له من أن یسیر بتوجیهه، ویؤدي ذلك إلى الفوضى والاقتتال الداخلي، حیث یتناحر المتوددون للتقرب من الملك الذي یتحكم بكل شيء، وغالبًا ما یعاني المغالون في توخي الكمال مشكلات صحیة؛ لأنهم یجهدون أنفسهم في العمل أعظم الإجهاد؛ وهم یحبون لوم الآخرین على كل شيء یسیر على نحو خاطئ؛ فلا یرون أحدًا یعمل بجدٍّ كافٍ، ولدیهم أنماط من النجاح المبدئي؛ یتبعها الإنهاك، والإخفاق الذریع، وخیر لك أن تلاحظ هذا الصنف من الناس قبل الوقوع في شَرَكهم؛ على أي مستوًى كان، فهم لا یرضیهم أي شيء تقوم به، وسیقضون علیك شیئًا فشیئًا بمخاوفهم، وتعسفهم، ورغبتهم في التحكم.

 

2-  المتمرد العاتي: یبدو لأول وهلة على جانب عظیم من الإثارة؛ فهو یكره السلطة، ویحب المضطهدین، وجمیعنا تقریبًا ننجذب سرا إلى ذلك الموقف؛ فهو موقفٌ یحرك إحساس المراهقة فینا، في الرغبة في الاعتراض على معلمینا، ولا یقر هؤلاء المتمردون بالقوانین، ولا یتعظون بسوابق الأحداث. ویرون أن الامتثال للتقالید والأعراف إنما هو من شیم أصحاب الضعف والبلادة من الناس، وغالبًا ما تجد عند المتمرد العاتي روح الدعابة اللاذعة التي قد تنقلب ضدك، إلا أنها جزء من صدق نفسه في رغبته في التقلیل من شأن كل الناس؛ أو هذا ما تظنه فیه؛ لكن إذا صادف أنك صاحبته بصورة لصیقة فستعرف أن ذلك أمر لا یمكنه التحكم فیه؛ فترى أنه لزامٌ علیه الشعور بالتفوق، لا التحلي بخصال أخلاقیة سامیة.

 

ولعله في طفولته كان یخیب آماله أحد أبویه، أو من له شخصیة الأب. فأصبح لا یثق بجمیع من یتقلدون مفاتیح السلطة، ویكرَههم، وفي نهایة الأمر، تراه لا یقبل بأي انتقاد له؛ لأن مجرد توجیه الانتقاد تفوح منه رائحة صاحب السلطة، فلا یمكن أبدًا إبلاغه بما علیه فعله. وكل شيء عنده یجب أن یكون خاضعًا لشروطه، وإذا اعترضت سبیله بطریقة أو بأخرى، فسیصوِّرك طاغیةً عاتیًا، فتكون هدفًا لدعاباته القاسیة، وتراهم یكسبون اهتمام الناس بموقفهم المتمرد هذا، وسرعان ما یصبحون مدمنین على الحصول على اهتمام الآخرین بهم، والمحصلة أن أمرهم یتعلق بالسلطة وحدها؛ فینبغي ألا یكون هناك من یفُوقهم سلطةً؛ ومن یتجرأ على الارتفاع فوقهم سیدفع الثمن.

 

وانظر في ماضیهم فستجد أحدهم یمیل إلى الافتراق عن الناس على نحو سیئ للغایة، ویزداد الأمر سوءًا بما یوجهونه من إهانات للآخرین، فلا تغوینَّك روح الإثارة في موقفهم المتمرد، فهذا الصنف من الناس حبیس في مشاعرالمراهقة إلى الأبد، ومحاولتك العمل معهم ستكون أشبه في نتیجتها بمحاولتك مجادلة مراهق مشاكس.

 

3-   الحساس (أسیر الشخصنة): یبدو شدید الحساسیة وعمیق التفكیر، وتلك خصلة نادرة وجیدة وقد یبدو الحزن علیه بعض الشيء، إلا أن أصحاب الحساسیة ربما یحیون حیاة قاسیة، وغالبًا ما یجذبك إلیه مظهره هذا، فترید أن تساعده. كذلك قد یبدو ذكیا للغایة، ویراعي مشاعر الآخرین، ویبدو العمل معه مثمرًا؛ إلا أن ما ستدركه بعد حین أن حساسیته في الواقع لا تسیر إلا في اتجاه واحد؛ إنه الاتجاه إلى داخله، فهو میال إلى حمل كل شيء یقوله الناس، أو یفعلونه، على محمل شخصي، فتراه یمیل إلى إطالة التفكیر في الأمور التي تعرِض له لأیَّامٍ؛ أي بعد وقت طویل من نسیانك ملاحظة بریئة وجهتها إلیه وأخذها على محمل شخصي، وحاله في ذلك حال الأطفال، فلدیه شعور ملحٌّ ینخر فیه، بأنه لم ینل كفایته من أبویه من حبٍّ، واهتمام، وممتلكات مادیة. ومع تقدمه في العمر یجتذبه كل شيء في حیاته إلى تذكُّر ما لم یحصل علیه؛ فیعیش حیاته مستاءً من ذلك، ویرید من الآخرین أن یعطوه ما یرید دون أن یطلبه، وتراه دائمًا في توجُّس، یسأل نفسه هل تعیره اهتمامك، وهل تحترمه، وهل تعطیه مقابل ما قدمه لأجلك؟ ونتیجة كونه سریع الانفعال وشدید الحساسیة، فإنه حتمًا ینفِّر الناس منه؛ وهو أمر یجعله یزداد حساسیة أیضًا، وتراه في مرحلة معینة وقد بدأت تظهر علیه نظرة خیبة أمل مستمرة.

 

وترى في حیاته نمطًا تكثر فیه الخلافات مع الناس، إلا أنه دائمًا یجد نفسه الطرف المظلوم، وإیاك ثم إیاك أن تخطئ سهوًا فتهین أحدًا من هذا الصنف من الناس، فلهؤلاء ذاكرة مدیدة، وقد یمضون سنوات كثیرة في الانتقام منك. وإذا استطعت ملاحظة هذا الصنف من الناس في وقت مبكر بصورة كافیة فخیرٌ لك أن تتجنبهم؛ لأنهم حتمًا سیجعلونك تشعر بالذنب لقیامك بشيء ما.

 

4-  صاحب الدراما المسرحیة: یجذبك إلیه حضوره المثیر، فلدیه طاقة غیر معهودة، ولدیه قصص غریبة یخبرك بها، وقسماته تنبض بالحیویة، ویمكن أن یكون ظریفًا للغایة، وتجد أن من الممتع أن تكون بقربه؛ إلى أن تتحول مسرحیته إلى مسخ، وحاله كحال الطفل؛ من ناحیة أنه یتعلم أن السبیل الوحیدة للحصول على الحب والاهتمام باستمرار هو الإیقاع بأبویه في مشكلاته وإزعاجاته؛ وهي مشكلات وإزعاجات یجب أن تكون كبیرة بما یكفي لجعل الأبوین ینشغلان به عاطفیا على مر الوقت، ویغدو ذلك دیدَنه، وطریقته في الشعور بالحیاة، وبأنه مرغوب من الآخرین. ونحن نرى أن معظم الناس یحجمون عن أي نوع من أنواع المواجهة، إلا أن أصحاب الجاذبیة المسرحیة یبدو أنهم یعیشون من أجل المواجهة، وكلما زادت معرفتك بهم سمعت منهم المزید من القصص عن المشاحنات والمعارك التي جرت في حیاتهم، إلا أنهم ینجحون دائمًا في وضع أنفسهم موضع الضحیة.

 

فعلیك أن تدرك أن أعظم ما یطلبونه هو تعلیقك بخطافاتهم بأي وسیلة ممكنة؛ فتراهم یورطونك في مسرحیاتهم إلى درجة أنك ستشعر بالذنب إن انسحبت منها، وخیر لك أن تفطن إلیهم في وقت مبكر قدر ما أمكنك قبل أن تقع في شراكهم، فیسحبونك معهم إلى الهاویة، وعلیك بتفحص ماضیهم بحثًا عن دلیل على هذا النمط في الحیاة؛ وأسرع بالفرار إذا اشتبهت في أنك تتعامل مع هذا الصنف من الناس.

 

5-  المتحذلق الثرثار: تراك تتأثر بأفكاره، ومشروعاته التي یفكر بها، وتراه بحاجة إلى المساعدة، والدعم، فتتعاطف معه، لكن تریَّثْ لحظة، وتفحصْ ماضیه بحثًا عن علامات

على إنجازات سابقة، أو أي شيء ملموس قام به، فلعلك تتعامل مع صنف من الناس لیس خطیرًا بصورة لافتة؛ إلا أنه یمكن أن یغیظك ویضیِّع منك وقتًا ثمینًا؛ فهؤلاء الناس في جوهرهم متناقضون، فتراهم من جانب أول یخافون سرا من بذل الجهد، وتحمل المسؤولیة، في عملیة تحویل أفكارهم إلى أفعال، وتراهم من جانب آخر، یتوقون إلى لفت الانتباه، وحیازة السلطة، والجانبان یقتتلان داخلهم، إلا أن الجانب القلِق هو من یربح حتمًا، فیفرون من أفكارهم ومشروعاتهم في اللحظة الأخیرة، ویعللون بسبب أو بآخر خروجهم مما كانوا فیه؛ بعد أن تكون قد ألزمت نفسك بهم؛ إنهم لا یكملون أي شيء بأنفسهم، وفي نهایة المطاف یمیلون إلى لوم الآخرین على عدم تحقق رؤاهم ، أو یحاولون العثور على شخص ساذج یقوم بالأعمال الشاقة كلها عنهم، سعیًا لإحیاء فكرتهم الملتبسة، ویلقون علیه باللائمة إذا كان مصیره الإخفاق التام.

 

والغالب في المتحذلق، أن یكون أبواه متقلبین معه، وینقلبان علیه فجأة لأقل ذنب یرتكبه؛ لذلك فإن غایته في الحیاة هي تجنب الحالات التي قد یعرض فیها نفسه للانتقاد وأحكام الآخرین، ویبرع المتحذلق في ذلك عن طریق تعلمه طیب الحدیث، والتأثیر في الناس بقصصه؛ إلا أنه یفر عند المحك، ویجد دائمًا لهروبه سببًا؛ فعلیك أن تبحث بإمعان في ماضیه عن علامات على نمطهم هذا، فإذا بدا لك أنه من هذا الصنف من الناس فاستمتع بقصصه، دون أن تَمضي أبعد من ذلك.

 

6-  الشهواني الشَّبِق: یبدو مفعمًا بالشَّبَق، بطریقة صریحة غیر مكبوتة، ولدیه میل إلى خلط العمل بالملذات، وطمس الحدود بینهما إذا وجد الوقت ملائمًا؛ ولعل بعض الناس یظن أن هذا أمر طبیعي وصحي؛ إلا أن الحقیقة أن ذلك سلوك قهري، ینبع من جانب مظلم؛ ففي السنوات الأولى من عمر هذا الشهواني، یحتمل أنه تعرض لاعتداء جنسي بطریقة ما؛ وقد یكون اعتداءً جسدیا مباشرًا، أو قد یكون اعتداءً نفسیا في مجمله؛ یلوح من نظرات الأبوین، ولمسهما لطفلهما بطریقة رقیقة لكنها غیر لائقة.

 

فیترسخ هذا النمط الحیاتي في أعماقه، ولا یمكنه التحكم به؛ فیمیل إلى رؤیة أي علاقة بأنها تنطوي على علاقة جنسیة، ویغدو السِّفاد وسیلته لإثبات ذاته، وعندما یكون في شبابه یمكن له أن یعیش حیاة فیها إثارة وانحلال؛ وذلك مع میله للبحث عمن یقع في شرَكه، لكنه عندما یتقدم به العمر فإنه إذا مرت به آماد طویلة بلا هذا الإثبات لنفسه، ینقاد إلى الاكتئاب والانتحار أو محاولة الانتحار، مع استبداد الیأس به، وإذا تقلد منصبًا قیادیا فإنه یستخدم سلطته للحصول على ما یبتغیه، وذلك تحت مظهر أن الأمر في شبقه وسفاده أمر طبیعي وغیر مكبوت. فإذا تقدم به العمر أكثر من ذلك، فإن كبره یفزعه، ویزیده بؤسًا وتعاسة، ولن تستطیع مساعدته ولا إنقاذه من هذا السلوك القهري، وما علیك إلا أن تنقذ نفسك من التورط مع هذا الصنف من الناس؛ على أي مستوًى كان.

7-  الأمیر المدلل والأمیرة المدللة: یجذبك هؤلاء إلیهم بأجوائهم الفخمة، ویتسمون بالرصانة وهم یصطبغون دائمًا بشيء من الشعور بالتفوق، فمما یسر المرء أن یقابل أناسًا یبدون واثقین من أنفسهم، ویقدَّر لهم أن یلبسوا التیجان على رؤوسهم. وشیئًا فشیئًا ربما تجد نفسك تسدي إلیهم خدماتك، وتعمل بجدٍّ كبیر بلا مقابل؛ وأنت لا تفهم حق الفهم السبب في ذلك، أو كیفیة حدوثه. إنهم یعبِّرون بطریقة ما عن حاجتهم لنیل الرعایة، وهم خبراء في جعل الآخرین یدللونهم، وقد كان أحدهم في طفولته مدلَّلًا من أبویه؛ فكانا یشبعان رغباته في أبسط نزواته، ویحمیانه من أي نوع من التدخل القاسي یأتیه من العالم الخارجي.

 

كذلك فإن هناك بعض الأطفال الذین یدفعون الأبوین إلى هذا السلوك عن طریق التصرف وكأنهم عاجزون لا حول لهم ولا قوة، ومهما كانت العلة التي تقف وراء سلوكهم كبارًا فإن رغبتهم الأولى في كبرهم هي تكرار هذا الدلال المبكر، وتبقى هذه الرغبة فردَوسهم المفقود، وكثیرًا ما تلاحظ بأنهم إذا لم یحصلوا على ما یریدونه یظهر منهم سلوك یشبه سلوك الأطفال؛ فترى فیهم البرطمة ونوبات الغضُّب أیضًا.

 

وهذا هو بالضبط نمط حیاتهم في كل العلاقات العاطفیة، فإذا لم تكن بك حاجة ماسة لتدلیل الآخرین، فسترى أن العلاقة بهم علاقة مغیظة، وهي دائمًا تتم وفقًا لشروطهم، كذلك فإنهم غیر مستعدین للتعامل مع الجوانب القاسیة في حیاة البالغین؛ فتراهم یتلاعبون بالناس لیؤدوا لهم دور المدلِّل، أو تراهم یلوذون بالمسكرات والمخدرات لتخفیف آلامهم، وإذا شعرت بالذنب لتقصیرك عن مساعدتهم فذلك یعني أنك قد علقت في المصیدة؛ فعلیك بدلًا من مساعدتهم أن تعتني بنفسك.

 

8-  المبهجون: لم تقابل في حیاتك شخصًا بلطفه ورقة مشاعره تجاه الآخرین، وتكاد لا تستطیع تصدیق ما هو علیه من سعة الصدر، وسحر الجاذبیة؛ إلا أنك بعد حینٍ، تبدأ تساورك الشكوك بشأنه، رویدًا رویدًا، إلا أنك لا تستطیع أن تجد مصدر شكوكك.

وتقول في نفسك لعله لا یظهر على النحو الذي كان یؤمل منه، أو لعله لا یحسن الظهور جیدًا، إنه أمر دقیق شائك، لكن كلما ازدادت شكوكك اتضح لك أنه إنما یدمرك، أو یغتابك إذا غبت عنه؛ فهذا الصنف من الناس بارع في التودد والمداهنة، ولم یتطور لطفهم من عاطفة صادقة تجاه أصحابهم، بل تطور لطفهم لیتخذوه طریقة دفاعیة، ولعل أحدهم كان له أبوان قاسیان؛ یكثران من عقابه، والتدقیق في كل تصرفاته، فكان التبسُّم والظهور بمظهر احترام الآخرین طریقتَهم في إبعاد أي صورة من العدوانیة عنهم، وأصبح ذلك نمطهم في الحیاة. ولعل أحدهم كان أیضًا یلجأ إلى الكذب على أبویه فأصبح بصورة عامة متمرسًا خبیرًا في الكذب.

وحال أصحاب هذا الصنف كبارًا یشبه حالهم صغارًا؛ فیقبع وراء الابتسامات والمداهنات، قدرٌ عظیم من الاستیاء من الدور الذي علیهم أن یقوموا به، وهم في سرائرهم یتوقون إلى إیذاء الآخرین، والسرقة ممن یخدمونه أو یذعنون له، فعلیك أن تأخذ حذرك من الناس الذین یظهر منهم بقوة الكثیر من سحر الجاذبیة وتهذیب الأخلاق، إلى درجةٍ أبعد من الحدود الطبیعیة، ویمكن لهؤلاء أن یتحولوا إلى العدوانیة المستترة العظیمة؛ فیلحقون بك الأذى عندما تتخلى عن حذرك.

 

9-  المُخلِّص المنقذ: أنت لا تصدق حظك الطیب عندما تلتقي بواحد من هذا الصنف من الناس؛ فقد قابلت من سیخلصك من الصعوبات والعقبات التي تواجهها، فبطریقة ما استطاع هذا المخلِّص أن یلاحظ حاجتك إلى المساعدة، فتجد عنده الكتب التي تحتاج إلى قراءتها، والإستراتیجیات التي تحتاج إلى الأخذ بها، والغذاء المناسب الذي تحتاج إلى تناوله؛ وفي بدایة الأمر، یكون كل ذلك جذابًا للغایة، إلا أن الشكوك تبدأ تخامرك في اللحظة التي ترید فیها تأكید استقلالیتك، والقیام بالأمور بنفسك.

 

والغالب أن هذا الصنف من الناس، كان علیه في طفولته أن یرعى أمه، أو أباه، أو إخوته، ومثال ذلك عندما تجعل الأم احتیاجاتها الشخصیة الشغل الشاغل للأسرة؛ فیعوض الطفل في هذه البیئة عن نقص الرعایة التي یتلقاها بمشاعر السلطة التي یستمدها من علاقة الرعایة المقلوبة هذه، ویرسخ هذا فیه نمطًا حیاتیا؛ فهو ینال ذروة الرضا في نفسه من إنقاذ الناس؛ أي من تقدیمه الرعایة لهم، وكونه المخلِّص لهم، ولدیه قدرة على تحسس من یحتمل أنهم بحاجة إلى الإنقاذ؛ إلا أن بإمكانك أن تلاحظ جانبًا قهریا في سلوكه هذا، في حاجته إلى التحكم بك، وإذا كان یرغب بتركك تقف على قدمیك بمفردك بعد شيء من المساعدة الأولیة فإنه إنسان نبیل حقا؛ أما إذا كان الأمر على خلاف ذلك فكل ما یریده هو السلطة التي یمارسها علیك، وعلى كل حال یحسُن بك أن تغرس في نفسك الاعتماد على الذات، وتطلب من المخلِّص أن یسعى في شأنه

ویخلِّص نفسه.

 

10-        الواعظ: یعطیك هذا الصنف من الناس إحساسًا یثیر حفیظة نفسك من مظلمة أو

أخرى؛ ویكون أحدهم أنیق اللفظ ذَرِبَ اللسان. وبهذا الأسلوب في الإقناع تراه یجد لنفسه أتباعًا؛ وأنت منهم، إلا أنك أحیانًا تلاحظ تصدعًا في مظهره المستقیم؛ فالواحد من هذا الصنف من الناس -إذا كان صاحب عمل- تراه لا یعامل الموظفین عنده معاملة حسنة؛ وإذا كان زوجًا فإنه یتعامل بتذلل مع زوجته؛ وربما له حیاة في السر، أو في الرذیلة؛ تلحظُ لمحات منها، وعندما كان طفلًا كان كثیرًا ما یشعر بالذنب بسبب من حوله؛ من جراء اندفاعاته القویة، ورغباته في الحصول على مباهج الطفولة، فكان یعاقَب على ذلك، فیحاول كبت هذه الدوافع، ونتیجة لذلك تطور عنده شيء من بُغضِ الذات، وسرعان ما یُبرز الخصال السلبیة في الآخرین، أو ینظر نظرة حسد إلى الناس الذین لا یعانون كبتًا كبیرًا، فهو لا یحب الآخرین الذین یمتعون أنفسهم، وبدلًا من إظهار حسده یختار إطلاق الأحكام على الناس، وشجب أفعالهم، وستلاحظ عند البالغین من هذا الصنف من الناس أنه قد انعدم عندهم تفاوت الناس تمامًا؛ فالناس في نظر أحدهم: أخیار أو أشرار؛ ولا وسط بینهم. والواقع أن هؤلاء یحارِبون طبیعة البشر، ولا یستطیعون تقبُّل سماتنا البشریة ناقصة الكمال، ویسهل الأخذ بهذه الأخلاقیات، ویسهل أن تصبح

قهریة؛ حالها كحال تعاطي المسكرات ولعب القمار؛ وما من خسارة یخسرها أصحابها من جرائها؛ إلا الكثیر من الكلمات النبیلة، ویتم لهؤلاء الازدهار في ثقافة اللباقة الاجتماعیة

والحق أنهم ینساقون خفیة إلى ما یشجبونه ویستنكرونه؛ وهذا هو السبب في أنهم ولا شك یعیشون جانبًا سریا في حیاتهم، وستكون أنت محل انتقادهم في مرحلة ما حتمًا إذا اقتربت منهم إلى حدٍّ كبیر؛ فعلیك أن تلاحظ في وقت مبكر انعدام التعاطف عندهم، واحتفظ بمسافة من البعد تفصلك عنهم.

 

هذا القانون بسیط ویتعذر تغییره: إنه الطبع الثابت فیك، وقد تشكَّل هذا الطبع من عناصر سبقت إدراكك الواعي، فیجبرك هذا الطبع في أعماقك على تكرار تصرفات معینة، وإستراتیجیات معینة، وقرارات معینة، وتیسِّر بنیة الدماغ هذه العملیة: فعندما تفكر بتصرف ما وتقوم به یتشكل مسار عصبي في الدماغ، یجعلك تفعله مرة بعد أخرى. ومما یتصل بهذا القانون قدرتك على السیر في أحد اتجاهین، وكل منهما یحدد بدرجة ما، مسیرة حیاتك.

 

والاتجاه الأول: هو اتجاه الجهل والإنكار؛ فلا تنتبه إلى الأنماط السائدة في حیاتك؛ ولا تتقبل فكرة أن السنوات الأولى من عمرك تركت فیك أثرًا عمیقًا وباقیًا؛ یجبرك على التصرف بطرق معینة، وتتخیل أن طبعك طوع یدك، وأن بإمكانك إعادة تكوین نفسك إذا أردت. فتظن أنه بإمكانك السیر في طریق الوصول إلى السلطة والشهرة الذي سلكه غیرك؛ حتى لو كان قد أتى من بیئة ذات ظروف مختلفة كل الاختلاف عن ظروفك، وقد یبدو مفهوم الطبع الثابت كالسجن، وكثیر من الناس یریدون في سریرتهم الهروب من أنفسهم؛ عن طریق المخدرات، أو المسكرات، أو ألعاب الفیدیو. ونتیجةُ هذا الإنكار نتیجةٌ بسیطة: فالسلوكیات، والأنماط القهریة تزداد رسوخًا في أنفسهم، فلا یمكنك التحرك ضد بذور طبعك، ولا یمكنك أن تتمنى زوالها، فهي قویة للغایة.

وكانت هذه بالضبط مشكلة هوارد هیوز الذي ذكرنا قصته آنفًا. فقد تصور نفسه رجلَ أعمالٍ ناجحًا، یؤسس إمبراطوریة تربو على إمبراطوریة والده، إلا أنه بطبیعته لم یكن یحسن إدارة الناس، وقوته الحقیقیة كانت قوَّتَه التقنیة لا الإداریة؛ فقد كان یمتلك حسا رائعًا بالجوانب التصمیمیة والهندسیة في إنتاج الطائرات، ولو أنه عرف ذلك، وقَبِل به لاستطاع أن یبني لنفسه مهنة عظیمة في رسم آفاق شركته لصناعة الطائرات، ولكان ترك العملیات الیومیة لمن یقدر علیها بحق، إلا أنه عاش وقد رسم صورة لنفسه غیر مرتبطة بطبعه، فأودى به ذلك إلى نمط من الإخفاقات، وحیاة بائسة.

 

أما الاتجاه الآخر: فالسیر فیه أكثر صعوبة، إلا أنه المسلك الوحید الذي یقودك إلى القوة الحقیقیة، وبناء طبع التفوق، ویمضي هذا الاتجاه على النحو الآتي: تقوم بسبر أغوار نفسك قدر ما تستطیع، وتنظر في الطبقات العمیقة من طبعك، لتحدد نفسك: أأنت من محبي العِشرة أم من محبي الخلوة؟ وهل الغالب فیك أن تسیطر علیك درجات مرتفعة من القلق والحساسیة، أم من العدوانیة والغضب، أم أن لدیك حاجة شدیدة للانخراط مع الناس؟ وانظر في أهوائك الأساسیة، وهي الموضوعات والأنشطة التي تنساق إلیها بطبیعتك، وتمعن في سمات الروابط التي أقمتها مع والدیك؛ وأفضل علامة تدل علیها هي علاقاتك الحالیة بالناس، وانظر بصدق وأمانة في أخطائك، وأنماط المشكلات التي لا تفتأ تعیقك، واعرف حدودك؛ وهي الحالات التي لا یمكنك فیها أن تفعل أفضل ما عندك، ولْتدركْ أیضًا القوى الطبیعیة في طبعك التي بقیت فیك بعد سن

المراهقة.

 

فإذا تم لك هذا الإدراك فلن تعود أسیر طبعك؛ مجبرًا على تكرار الإستراتیجیات والأخطاء نفسها إلى ما لا نهایة، وعندما ترى نفسك تنحدر إلى بعض أنماطك المعتادة، بإمكانك أن تمسك نفسك في الوقت المناسب لتتراجع عما كنت مقدِمًا علیه، ولعلك لن تستطیع إیقاف هذه الأنماط بالكامل؛ إلا أنك بالممارسة تستطیع أن تخفف من آثارها، وإذا عرفت حدودك فإنك لن تجرب أشیاء لا قدرة لك علیها، ولا تهواها، وبدلًا من ذلك تختار مسارات مهنیة تناسبك، وتنسجم مع طبعك؛ فبصورة عامة أنت تقبَل بطبعك وتعانقه بسرور، فلیس مرامك أن تغدو شخصًا آخر؛ بل أن تكون أنت نفسَك بدقة؛ مدركًا لقدراتك الحقیقیة الكامنة؛ فترى طبعك كأنه صلصال ترید تشكیله؛ لتحوِّل مواطن الضعف الشدید فیك إلى مواطن قوة؛ شیئًا فشیئًا، ولا تتهرب من عیوبك، بل علیك أن ترى فیها مصدرًا حقیقیا لقوتك.

 

 

فإذا كنت مغالیًا في توخي الكمال، وتحب أن تتحكم بكل شيء، فعلیك أن تغیر اتجاه هذه الطاقة لتتجه إلى عمل منتج بدلًا من أن تستخدمها في الناس، واهتمامك بالتفاصیل والمعاییر العلیا أمر

إیجابي، إذا عرفت أن توجهه بصورة صحیحة، وإذا كنت قطبًا للسرور فقد تطورت عندك مهارات التودد والجاذبیة الحقیقیة، فإذا استطعت رؤیة هذه السمة فیك فبإمكانك التحكم بالجانب القهري والدفاعي فیها، واستخدامها لتكون مهارة اجتماعیة أصیلة تمنحك قوة عظیمة، وإذا كنت ذا حساسیة مرتفعة وتمیل إلى تناول الأمور على محمل شخصي فبوسعك العمل على إعادة توجیه ذلك إلى أهداف اجتماعیة إیجابیة، وإذا كنت ذا طبع متمرد فإن لدیك كرها طبیعیا للأعراف والطرق الاعتیادیة في إنجاز الأمور؛ فقم بتوجیه ذلك إلى شيء من العمل المبدع بدلًا من أن تقوم قهرًا بإهانة الناس وتنفیرهم منك؛ فلكل نقطة ضعف ما یقابلها من نقاط القوة.

 

وفي النهایة لا بد لك أیضًا من صقل أو غرس السمات التي تدخل في الطبع السلیم من الجلَد في الملمَّات، إلى الاهتمام بدقائق الأمور، إلى القدرة على إتمام العمل، إلى العمل في فریق عمل، إلى التسامح مع الناس على اختلافهم، والطریقة الوحیدة لتقوم بذلك هي أن تصوغ عاداتك التي تتحول فتكوِّن طبعك شیئًا فشیئًا، ومثال ذلك أنك تدرب نفسك على عدم الرد في التو واللحظة؛ وذلك بأن تضع نفسك مرارًا في حالات سیئة، أو حالات تسبب لك التوتر؛ لتعتاد علیها في ألَّا تكون سریع الاستجابة لها، وفي أعمالك الیومیة الرتیبة علیك أن تغرس في نفسك الصبر والاهتمام بدقائق الأمور، وتقوم بقصدٍ منك بالقیام بأعمال أعلى بقلیل من مستواك، فیكون علیك لتتمها أن تعمل بجدٍّ أكبر؛ لیساعدك ذلك في ترسیخ انضباطٍ أكبرَ لنفسك، وتحسین عادات العمل عندك، ودرب نفسك على التفكیر دائمًا بأفضل شيء یصب في مصلحة فریق العمل، كذلك ابحث عمن یظهر علیهم الطبع السلیم، وصاحبْهم قدر ما تستطیع؛ فبهذه الطریقة یمكنك أن تتمثل ما عندهم من طاقة وعادات؛ ولتقوم بإضفاء المرونة على طبعك، وتلك دائمًا علامة من

علامات القوة؛ فإن علیك أن تنتفض في نفسك بین حین وآخر، فتجرب أسلوبًا أو طریقة جدیدة في التفكیر، فتقوم بشيء یخالف ما اعتدت علیه.

 

فإذا قمت بكل ذلك، فلن تعود عبدًا لطبعٍ أنشأَته فیك سنواتك الأولى في الحیاة، ولا عبدًا لسلوك قهري ناشئ منه؛ بل إنك ستمضي أبعد من ذلك، فقد بات بوسعك الآن أن تصوغ أحسن الصیاغة طبعك الحقیقي، ومصیرك الذي یرافقه.

 

0 التعليقات: