07‏/02‏/2021

قوانين الطبيعة البشرية 5

 قوانين الطبيعة البشرية 5

:القانون الأول

القصة

بيركيلس




الفصل الأول:

 

تمكَّنْ من نفسك العاطفیة

 

( قانون اللاعقلانیة )

 

یستهویك تصور نفسك تتحكم بقدَرك، لتخطط بوعيٍ مسیرةَ حیاتك بأفضل ما تستطیعه، لكن

یغیب عن إدراكك إلى حدٍّ كبیر عمق سیطرة عواطفك علیك، إنها تجعلك تنحرف باتجاه

الأفكار التي ترضي الأنا عندك، إنها تجعلك تبحث عن برهان یثبت ما ترید مسبقًا تصدیقه،

إنها تجعلك ترى ما ترید أنت أن تراه، بالاعتماد على مزاجك، وهذا الانقطاع عن الواقع هو

مصدر القرارات الفاسدة والأنماط السلبیة التي تؤرق حیاتك، والعقلانیة هي قدرتك على

التصدي لهذه الآثار العاطفیة، قدرتك على التفكیر بدل الاستجابة، قدرتك على أن تفتح عقلك

لما یحدث حقیقةً لا لما تشعر به، ولا تأتیك هذه القدرة بصورة طبیعیة؛ فهي قوة علیك أن

تغرسها، وعندما تغرسها تدرك أعظم طاقاتك الكامنة.

 

الروح الداخلية لأثینا

قبل یوم من نهایة سنة 432 قبل المیلاد، تلقى أهالي مدینة أثینا أخبارًا مقلقة للغایة: لقد وصل

ممثلون من المدینة الدولة إسبارطة إلى مدینتهم، وقدَّموا إلى مجلس الحكم في أثینا شروطًا جدیدة، لإحلال السلام، وإذا لم یوافق أهل أثینا على هذه الشروط، فستعلن إسبارطة الحرب علیهم.

وكانت إسبارطة تمثل العدو اللدود لأثینا، وكانت النقیض الكامل لها من وجوه كثیرة؛ فقد تزعمت أثینا رابطة من الدول الدیمقراطیة في إقلیمها، أما إسبارطة فتزعمت اتحادًا من الأقلیات الحاكمة،

عرف باسم اتحاد بَلْبُونَس، واعتمدت أثینا على قواتها البحریة وثرواتها وكانت القوة التجاریة الأولى في البحر الأبیض المتوسط، أما إسبارطة فاعتمدت على قواتها البریة، وكانت دولة عسكریة بأكملها، وقد تجنبت القوتان الحرب المباشرة إلى حدٍّ كبیر حتى ذلك الوقت؛ وذلك لأن نتائجها یمكن أن تكون مدمرة فلن یقتصر الأمر على مجرد خسارة الطرف الخاسر نفوذه في الإقلیم؛ بل ستكون طریقته في الحیاة بمجملها في خطر، وذلك یعني في حالة خسارة أثینا تعرض دیمقراطیتها وثرواتها للخطر، أما الآن فلا مفر من الحرب؛ وسرعان ما خیم على المدینة إحساس بوقوع كارثة وشیكة.

وبعد بضعة أیام، اجتمع مجلس نواب أثینا فوق تلة بنیكس )وسط أثینا(، المشرفة على تلة

أكروبولیس )التي فیها معبد أثینا وحصنها المنیع(، للتباحث في الإنذار الأخیر المقدم من إسبارطة، ولیقرروا ما هم مقبلون علیه، وكان مجلس نواب أثینا منتخبًا من مواطنیها الذكور، وقد احتشد منهم في ذلك الیوم ما یقرب من 10 آلاف مواطن فوق التلة للمشاركة في المناقشات الجاریة. وكان الصقور بینهم في حالة من الاهتیاج الشدید؛ وقالوا بأن على أثینا الأخذ بزمام المبادرة؛ لیكونوا البادئین بالهجوم على إسبارطة، وذكَّرهم آخرون بأنه یكاد یكون من غیر الممكن هزیمة قوات إسبارطة في معركة بریة، والهجوم على إسبارطة بهذه الطریقة سیصب مباشرة في مصلحتها. أما الحمائم فكانوا یفضلون القبول بشروط السلام، لكن ذلك على حد قول كثیر من الحاضرین كان سیظهر خوف أثینا، ویجعل إسبارطة تتجرأ علیها، فلن یكون ذلك إلا سببًا لإعطائهم المزید من الوقت لتقویة جیشهم، وبقیت المناقشات بین أخذٍ ورد، والعواطف تزداد اضطرامًا، والناس في لغط وصیاح، دون أن یلوح لهم حل یرتضیه الجمیع.

وبعد ذلك، وقبیل انتهاء ظهیرة النهار، ساد الهدوء فجأة في الحشد عندما تقدمت شخصیة معروفة  لمخاطبة المجلس، وكان ذلك هو بیریكلیس وهو من كبار رجال الدولة في السیاسة في

أثینا، وكان عمره آنذاك یزید على الستین عامًا، وكان بیریكلیس محبوبًا بین الناس، وكان لرأیه

أهمیة تربو على أهمیة أي رأي آخر؛ لكن على الرغم من احترام أهل أثینا للرجل فقد كانوا یرون فیه قائدًا شدید الغرابة؛ فیرونه أقرب إلى أن یكون فیلسوفًا منه سیاسیا وناجحًا، فلم یكن یقوم بأي شيء، ومن كانت أعمارهم كبیرة   یذكرون بدایات عمله في الدولة، ویفاجئهم كیف أصبح رجلًا قوی بالطریقة المعتادة.

ففي السنوات الأولى من عمر الدیمقراطیة في أثینا - وقبل أن یسطع نجم بیریكلیس - كان أهل

أثینا یفضلون نمطًا معینًا من الشخصیة في قادتهم؛ فهم یریدونهم رجالًا یلقون خطابات ملهمة

ومقنِعة، وبأسلوب مسرحي، وفي ساحات المعارك كان هؤلاء الرجال یجازفون بحیاتهم؛ فیُدفعون لقیادة حملات عسكریة، مما یمنحهم فرصة كسب المجد ولفت الانتباه، ویتقدمون في أعمالهم بتمثیلهم بعض الفئات في مجلس النواب - من أصحاب الأراضي، والجنود، والنبلاء- ویقومون بكل ما في وسعهم خدمة لمصالح أولئك. وأدى ذلك إلى كثرة الشقاق في السیاسة، وكان القادة یبزغون، ثم ینحدرون؛ في تعاقب من بضع سنین؛ إلا أن الأهالي كانوا راضین عن ذلك؛ وكانوا یرتابون بأي شخص یدوم عهده في السلطة طویلًا.

وهكذا دخل بیریكلیس معترك الحیاة العامة حوالي سنة 463 قبل المیلاد، وتغیرت منذئذ السیاسة في أثینا، وكانت أولى تحركاته هي أغربها على الإطلاق، فعلى الرغم من تحدره من أسرة عریقة من النبلاء، فقد جعل من نفسه حلیفًا للطبقات الوسطى والدنیا؛ النامیة في المدینة؛ من المزارعین، والبحارة في القوات البحریة، والصنَّاع الذین كانوا مفخرة أثینا، فعمل على رفع صوتهم في مجلس النواب، ومنحهم المزید من القوة في النظام الدیمقراطي، ولم تكن هذه الفئة التي بات یقودها بالفئة الصغیرة؛ بل كانت هي الغالبیة بین مواطني أثینا، وقد یبدو أن من المستحیل التحكم بهذا العدد للزیادة  الكبیر من رجال العامة صعاب المراس، مع تنوع مصالحهم؛ إلا أنه كان متحمسًا جدا؛ فكسب ثقتهم به، ودعمهم له، شیئًا فشیئًا.

ومع اتساع نفوذه، أخذ یفرض نفسه في مجلس النواب، ویغیر في شؤون السیاسة، فعارض

توسیع دولة أثینا الدیمقراطیة، حیث كان یخشى من مبالغة أهل أثینا في ذلك، فتضیع منهم السلطة في بلدهم، وعمل على تثبیت دعائم الدولة، وتقویة التحالفات القائمة، وعندما خاض غمار الحروب، وكان قائدًا عسكریا فیها، عمل جاهدًا على الحد من الحملات العسكریة، وتحقیق النصر بالدهاء، وبأقل قدر من خسائر الأرواح؛ وبدا ذلك في نظر الكثیرین أمرًا غیر بطولي؛ لكن مع ظهور أثر هذه السیاسات، دخلت المدینة مرحلة من الازدهار لم یسبق لها مثیل، فلم یعد هناك حروب لا داعي لها تستنزف خزینة الدولة، وغدت الدولة تسیِّر أعمالها بسلاسة عز نظیرها.

وقد أدهش مواطني المدینة وأذهلهم ما فعله بیریكلیس بفائض الأموال المتزاید؛ فبدلًا من استخدام المال لشراء الولاءات السیاسیة، استهل مشروعًا ضخمًا للبناء في أثینا، فأمر ببناء المعابد، والمسارح، وقاعات للحفلات الموسیقیة، وجعل جمیع الصناع في أثینا یعملون فیها، فأینما وجه الناظر نظره في أثینا ألفى المدینة تغدو أكثر جمالًا وبهاءً، وكان یفضل نمطًا في العمارة یظهر جمالیاته الشخصیة؛ فكان نمطًا منظمًا، هندسیا رفیعًا، ضخم البنیان لكنه مریح للنظر، وكان أعظم ما أمر ببنائه معبد البارثینون، وتمثال الربة أثینا الضخم بارتفاع أربعین قدمًا؛ فقد كانت الربة أثینا هي الروح الهادیة لمدینة أثینا، وكانت ربةَ الحكمة والذكاء العملي، وكانت تمثل جمیع القیم التي أراد بیریكلیس الدعوة إلیها؛ لقد غیَّر بیریكلیس بمفرده مظهر مدینة أثینا وروحها، فدخلت عصرها الذهبي في الفنون والعلوم كافة.

ولعل أغرب خصال بیریكلیس كانت أسلوبه في الحدیث؛ فقد كان حدیثه منضبطًا ومَهیبًا، فلم

تستهوه نغمات التنمیق المعتادة، بل كان یعمل على إقناع جمهوره عن طریقة الحجج المُحكَمة،

وهذا الأمر جعل الناس یستمعون بإنصات، وهم یتابعون مسار منطقه الممتع، لقد كان أسلوبه مقنعًا ومریحًا.

وبخلاف غیره من القادة، امتدت سنواته في السلطة سنة بعد أخرى، وعقدًا بعد آخر، فطبع

المدینة بطابعه تمامًا، بطریقته الهادئة المتواریة، وكان له أعداؤه؛ وذلك أمر حتمي، فقد بقي في السلطة مدة طویلة جدا جعلت كثیرین یتهمونه بأنه دكتاتور (مستبدٌّ) متخفٍّ، واشتبهوا بأنه خرجعلى دین آبائه؛ لأنه رجل كان یهزأ بجمیع التقالید؛ وذلك یفسر سبب تمیزه الكبیر، لكن لم یكن هناك أحد یجادل في ثمرات قیادته (النافعة).

وهكذا كان وهو یأخذ في خطابه أمام مجلس النواب عصر ذلك الیوم، فكان رأیه في الحرب على إسبارطة له الثقل الأكبر، وخیم الصمت على الحشد وهم ینتظرون سماع مقالته بفارغ الصبر.

لقد بدأ بالقول : یا أهل أثینا، لیس لي رأي إلا ما عرفتموه عني دائمًا : فأنا أعارض منح أي

تنازلات لجنود بلبونس، مع أنني أدرك أن حالة الحماسة للحرب التي یجري إقناع الناس بها لا

تبقى عندما تأخذ الأمور مجراها الفعلي؛ كذلك أدرك أن مسار الأحداث یغیر عقول الناس.

 

ثم ذكَّرهم بأن الخلافات القائمة بین أثینا وإسبارطة كان یفترض حلها عن طریق محكِّمین محایدین، وقال لهم بأن استسلامهم لمطالب إسبارطة أحادیة الجانب، سیشكل سابقة خطیرة على أهالي أثینا.

لكنْ؛ ما الذي ستؤول إلیه الحرب البریة مع إسبارطة؟ إنها انتحار ولا شك، واقترح علیهم بدلًا

منها صورة جدیدة تمامًا من الأعمال الحربیة؛ أعمالٍ حربیة محدودة ودفاعیة.

فأراد أن یدخل جمیع أهالي أثینا الذین یعیشون قرب جبهة القتال إلى داخل أسوار المدینة، وقال:

فلندَعْ جنود إسبارطة یأتون محاولین استدراجنا إلى القتال؛ ولنتركهم یخربون أرضنا، لكننا لن

نبتلع الطعم؛ فلن نقاتلهم على الیابسة، وبما أن لنا منفذًا على البحر فلن تنقطع الإمدادات عن

مدینتنا، وسنستخدم أسطولنا البحري للهجوم على بلداتهم الساحلیة، وبمرور الوقت، سیسري

الإحباط في نفوسهم باطراد؛ لأننا لم نخرج إلى معركتهم، وسیدخل حلفاؤهم في مشاحنات وجدل، وسیفقد الطرف الذي أغراهم بالحرب مصداقیته بینهم، وسیجري التوصل إلى سلام حقیقي دائم، وكل ذلك بأقل الخسائر في الأرواح والأموال منا.

 

 ثم انتهى إلى القول : بوسعي أن أبین لكم أسبابًا أخرى كثیرة؛ إن ما سیجعلكم تشعرون بالثقة 

بتحقیق نصر مؤزر، هو أن تزیلوا فقط فكرة توسیع الدولة والحرب دائرة؛ ولا تخرجوا عن هذا المسار وإلا وقعتم في أخطار أخرى، وأثار الموضوع المبتكر الذي طرحه جدلًا واسعًا، فلا

صقور القوم ولا حمائمهم كانوا راضین عن هذه الخطة؛ لكن انتهى الأمر إلى أن شهرة حكمة

الرجل كانت الغالبة، وتمت الموافقة على خطته. وبعد بضعة شهور بدأت الحرب المصیریة.

وفي بدایة الحرب، لم تمض الأمور وفق رؤیة بیریكلیس، فجنود إسبارطة وحلفاؤهم لم یسرِ فیهم الإحباط باطراد مع تطاول أمد الحرب، بل ازدادوا جرأة، وكان أهالي أثینا هم من دبَّ فیهم

الإحباط، وهم یرون أراضیهم یأتي علیها الخراب ولا رد؛ إلا أن بیریكلیس آمن بأن خطته لن

تخفق ما دام أهل أثینا صابرین، وبعد ذلك، وفي السنة الثانیة من الحرب، وقعت كارثة غیر

متوقعة قلبت كل الموازین: لقد دخل طاعون فتَّاكٌ المدینة؛ ومع تكدس الكثیرین داخل الأسوار

انتشر الطاعون بسرعة، فقتل أكثر من ثلث سكانها، وفتك بجنود جیشها، وحتى بیریكلیس نفسه

أصابه الطاعون، وبینما كان راقدًا ینتظر حتفه، كان یشهد الكابوس المفزع: فكل ما قدمه لمدینة

أثینا في عقود كثیرة بدا ینهار دفعة واحدة، وسقط الناس في هذیان جماعي، حتى بات كل واحد

منهم لا یشغله إلا النجاة بنفسه، ولو أن بیریكلیس نجا من حتفه، فلا شك أنه كان سیجد طریقة

یهدئ بها من غلیان الأهالي، ویطرح حلا مقبولًا للسلام مع إسبارطة، أو لعله یعدِّل في خطته

الدفاعیة؛ إلا أن الأوان كان قد فات.

ومن الغریب حقا أن أهالي أثینا لم یحزنوا على قائدهم؛ بل لاموه لما حل بهم من وباء، وساءهم

عدم جدوى خطته، ولم یعودوا یطیقون صبرًا أو ضبطًا لأنفسهم، لقد تخطاه الزمن، وأصبح یُنظَر إلى أفكاره الآن أنها ردود أفعال من رجل هرمٍ متعَب، وتحولت محبتهم لبیریكلیس إلى كره، وبعد خروجه من حیاتهم عادت الفصائل (في مجلس النواب) لتنتقم لنفسها، وأصبحت الغالبیة للفصیل الذي یرید الحرب، فقد طفح الكیل بهذا الفصیل؛ من تعاظم إحساس الأهالي بالمرارة من أفعال جنود إسبارطة الذین استغلوا الطاعون المنتشر في أثینا للتقدم في مواقعهم، ووعد الصقور بأنهم سیستعیدون المبادرة، وسیسحقون جنود إسبارطة بخطة هجومیة، وكان وقع هذه الكلمات على كثیر من أهالي أثینا بمنزلة بلسم یداوي جراحهم، ویفرِّج عواطفهم المكبوتة.

ومع تعافي المدینة من الطاعون شیئًا فشیئًا، حزم أهل أثینا أمرهم لتصبح لهم الید العلیا، ویتوسلَ

جنود إسبارطة منهم السلام، وفي اندفاعهم بالرغبة في هزیمة أعدائهم هزیمة منكرة، حصلوا على فرصة سنحت لهم؛ لكنهم ما لبثوا أن وجدوا جنود إسبارطة یستردون قوتهم، ویقلبون الطاولة علیهم، ومضت الحرب سجالًا، سنة بعد أخرى، وازداد العنف والمرارة عند الطرفین، وفي إحدى مراحل الحرب هجمت قوات أثینا على جزیرة میلوس، وهي من حلفاء إسبارطة، وعندما استسلم أهالي الجزیرة اقترع أهل أثینا بأن یقتل جمیع رجال جزیرة میلوس، وتباع نساؤهم وأطفالهم إماءً وعبیدًا، ولم یحدث شيء من ذلك مطلقًا أیام بیریكلیس.

وبعد ذلك، وبعد سنوات كثیرة من حرب لا تنتهي، وفي سنة 415 قبل المیلاد، كان لدى مجموعة من قادة أثینا فكرة مثیرة بشأن الهجوم بالضربة القاضیة، وكانت المدینة الدولة سَرَقُوسَة تزداد قوة في جزیرة صقلیة، وكانت سرقوسة حلیفًا بالغ الأهمیة لإسبارطة، فهي تمدها بالكثیر من الموارد الضروریة، فإذا استطاعت قوات أثینا -بما لها من قوة بحریة عظیمة- أن تطلق حملة تسیطر بها على سرقوسة فإنها ستكسب میزتین؛ الأولى ستتوسع دولة أثینا، والثانیة ستُحرَم إسبارطة من الموارد الضروریة لها لمتابعة الحرب، واقترع مجلس نواب أثینا بإرسال 60 سفینة تحمل جیشًا مناسبًا لإنجاز المهمة.

 

وأحد القادة العسكریین الذین إلیهم أوكلت قیادة هذه الحملة، واسمه نشیاص كانت عنده ،

شكوك كبیرة بسداد هذه الخطة، فكانت عنده خشیة من أن تستخف قوات أثینا بقوة مدینة سرقوسة، فحدد جمیع الافتراضیات السلبیة الممكنة؛ وخلص إلى أنه لا یكفل النصر لأثینا إلا حملة بحجم أكبر بكثیر من هذه.  لقد أراد إسقاط الحملة، لكن مقولته جاءت بتأثیر عكسي. فإذا كان من الضروري إرسال حملة أكبر، فإنهم سیرسلونها؛ فأضحت الحملة تضم 100 سفینة وضعف عدد الجنود، وتوسم أهل أثینا النصر في هذه الخطة، ولم یكن لیثنیهم عنها أي شيء.

وفي الأیام اللاحقة خرج أهالي أثینا من كل الأعمار إلى الطرقات؛ یرسمون خرائط صقلیة،

ویحلمون بالثروات التي ستتدفق على مدینتهم، والمذلة المهینة التي ستلحق بأهل إسبارطة، وتحوَّل یوم انطلاق السفن إلى یوم عیدٍ عظیم، ورأوا مشهدًا مذهلًا لم یسبق لهم أن رأوه في حیاتهم؛ أسطولٌ حربي عظیم یملأ المیناء على مد البصر، والسفن مزدانة بزخارفها، والجنود یرتدون الدروع اللامعة، ویملؤون ظهور السفن؛ لقد كان مشهدًا باهرًا یمثل مبلغ الثروة والقوة في مدینة أثینا.

ومضت الأشهر تباعًا، وأهل أثینا یطلبون أخبار الحملة بفارغ الصبر، وفي إحدى مراحل

الحملة، ونتیجة الحجم الضخم لهذه القوة، بدا أن جنود أثینا كانت لهم الأفضلیة، وتمكنوا من ضرب الحصار على سرقوسة؛ لكن في اللحظة الأخیرة، وصل المدد من إسبارطة، فأصبح جنود أثینا في حالة دفاعیة، وبعث نشیاص برسالة إلى مجلس النواب یصف فیها انعطاف الأحداث إلى الأسوأ، وأشار علیهم قائلًا: إما الاستسلام، وإما العودة إلى أثینا، وإما إرسال المدد بالعَجَل، واقترع نواب أثینا بإرسال المدد إلیه؛ لكرههم تصدیق وجود احتمال بالهزیمة، وكان المدد أسطولًا حربیا  ثانیًا من السفن والجنود؛ بحجم الأول تقریبًا، ومرت شهور بعد ذلك، ووصل قلق أهل أثینا إلى ذروة عالیة؛ فقد تضاعف الرهان على النصر الآن، ولا یمكنهم القبول بالهزیمة.

وفي أحد الأیام، سمع حلَّاق في بلدة بیرایوس عند مرفأ أثینا شائعةً من زبون عنده تقول: إن

حملة أثینا قد أبیدت عن آخرها في المعركة؛ بما فیها من السفن والجنود جمیعًا، وسرعان ما

انتشرت الشائعة بین أهالي أثینا، وكان من الصعب تصدیقها؛ لكن الهلع وجد طریقه إلیهم شیئًا

فشیئًا، وظهرت صحة الشائعة بعد أسبوع، وبدا أهل أثینا هالكین لا محالة؛ بعد أن خسروا المال،والسفن، والجنود.

لكن أهل أثینا استطاعوا التماسك بأعجوبة، إلا أنهم على مر السنوات القلیلة اللاحقة كانوا

یترنحون بشدة من جراء خسائرهم في صقلیة، فتعاورتهم الضربات القاسیة واحدة بعد أخرى، إلى أن وصلت سنة 405 قبل المیلاد، ولحقت بأثینا الهزیمة الكبرى، فأجبر أهلها على القبول بشروط مجحفة للسلام فرضتها إسبارطة علیهم، وانقضت سنوات المجد، والدولة الدیمقراطیة العظیمة، والعصر الذهبي لبیریكلیس؛ انقضت كلها إلى الأبد، وكان الرجل الذي كبت عواطفهم عظیمة الخطورة علیهم (من العدوانیة، إلى الطمع، إلى الغطرسة، إلى الأنانیة) كان قد رحل عنهم منذ أمد بعید، وطوى النسیان حكمته منذ زمن.

 

0 التعليقات: