قوانين الطبيعة البشرية 14
3-الأزواج النرجسيون: في سنة 1862 ، وقبل أیام من عقد قران لیو تولستوي ذي الاثنین والثلاثین عامًا من العمر على سونیا بیرس ذات الثمانیة عشر ، عامًا آنئذ، قرر تولستوي فجأة ألا یكون هناك أسرار بین الزوجین، وفي ذلك الإطار، أحضر إلیها مذكراته لتقرأها أمامه، وثارت دهشته عندما رأى أن ما قرأته، جعلها تبكي وتغضب أشد الغضب؛ ففي تلك الصفحات، كان قد كتب یصف علاقاته الغرامیة الكثیرة السابقة، ومنها ولهه المستمر بامرأة من الفلاحین في الجوار؛ وكان له منها طفل، وكتب أیضًا عن بیوت الدعارة التي تردد علیها، وعن إصابته بمرض السیلان من جراء ذلك، وعن لعبه القمار على الدوام. فشعرت سونیا بالغیرة الشدیدة، والاشمئزاز
الشدید؛ في وقت واحد. فلماذا یجعلها تقرأ كل ذلك؟ واتهمته بأنه صاحب أفكار مزدوجة، وبأنه لا یحبها حبا حقیقیا. وعندما ذهل بردِّها، اتهمها بالشيء نفسه، لقد أراد مشاطرتها عاداته القدیمة، لتدرك أنه هجر تلك العادات كونه سعیدًا بحیاة جدیدة معها، فلماذا توبخه على سعیه لأن یكون صادقًا معها؟
من الواضح أنها لم تحبه بالقدر الذي كان یظنه، ولماذا آلمها جدا أن تودِّع عائلتها قبل عقد القران؟ أكانت تحبهم أكثر منه؟ لكنهما قررا المصالحة وعقد القران، إلا أن صدعًا نشأ بینهما، ودام ثمانیًا وأربعین سنة.
لیو تولستوي فقد كان رجلًا غنیا، جاءته الثروة من العقارات التي ورثها من عائلته، ومن مبیعات كتبه، وكانت له عائلة كبیرة مولعة به، وكان مشهورًا، لكنه فجأة في سن الخمسین، شعر بتعاسة كبیرة وشعر بشَنَار ما كتبه من كتب، ولم یعد یعلم لنفسه هویة، لقد كان یمر بأزمة روحیة عمیقة؛ ورأى أن الكنیسة الأرثوذكسیة لن تساعده بصرامتها الشدیدة وتصلبها، وكان لا بد لحیاته من أن تتغیر، فلن یكتب المزید من الروایات، وسیعیش منذ الآن فصاعدًا عیشة عامة الفلاحین،
وسیتخلى عن ممتلكاته، وعن جمیع حقوق النشر لكتبه، وطلب من عائلته الانضمام إلیه في هذه الحیاة الجدیدة، المكرسة لتقدیم ید المساعدة للآخرین، والانغماس في الشؤون الروحیة.
واستاءت عائلته من ذلك، وكانت سونیا رائدتهم في ذلك، وكانت استجابتها غاضبة، لقد طلب منهم هجر نمط معیشتهم، ونبذ وسائل الراحة فیها، والتنازل عما سیرثه الأطفال في المستقبل، ولم تشعر سونیا بحاجة إلى القیام بأي تغییر جذري في نمط حیاتهم، واستاءت من اتهاماته لها؛ بأنها بمعارضتها له آثمةٌ ومادیة إلى حدٍّ ما؛ ونشب الشجار بینهما مرة بعد أخرى، دون أن یغیر أحدهما رأیه، وأصبح تولستوي لا یرى في زوجته إلا شخصًا یستغله بسبب شهرته وثروته، وظن أن ذلك هو السبب الواضح الذي جعلها تتزوجه، أما هي فكانت لا ترى فیه إلا منافقًا من المنافقین؛ فعلى الرغم من تخلیه عن حقوق الملكیة، إلا أنه استمر یعیش عیشة السادة النبلاء، ویطلب منها النقود لینفقها فیما اعتاده...
التفسیر: لقد أظهر لیو تولستوي كل العلامات الدالة على النرجسیة العمیقة. وكانت أمه قد توفیت عندما كان في الثانیة من عمره، فتركت فجوة كبیرة فیه لم یستطع أن یملأها أبدًا؛ على الرغم من أنه حاول ذلك في علاقاته الغرامیة الكثیرة، وكان یتصرف بتهور في ریعان شبابه، وكأن ذلك یمكِّنه بطریقة ما من الشعور بالحیاة والكمال، وكان یشعر باستمرار بالاشمئزاز من نفسه، ولم یستطع أن یكتشف حقیقة نفسه بدقة، وصب هذه الشكوك في روایاته، متقمصًا أدوارًا مختلفة في الشخصیات التي صنعها. وعندما وصل إلى الخمسین من العمر، سقط أخیرًا في أزمة عمیقة لنفسه المشتتة، وحتى سونیا بلغت درجة عالیة في مقیاس الانشغال بالنفس، لكننا عندما ننظر في أحوال الناس، نمیل إلى المبالغة في سماتهم الفردیة، ولا ننظر في الصورة المعقدة لكیفیة تأثیر كل جانب من العلاقة في الجانب الآخر منها باستمرار، فلكل علاقة بذاتِها حیاة وشخصیة تخصانها، ویمكن للعلاقة أیضًا أن تكون موغلة في النرجسیة، فتعزز المیول النرجسیة أو تبرزها عند طرفي العلاقة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق