قوانين الطبيعة البشرية 34
وتذكَّر: أن ما یدفع الناس في الخفاء هو: الرغبة، لا التملُّك. فعندما تتملك شیئًا ما، فلا محالة أنك ستجد فیه شیئًا من خیبة الأمل، وتشتعل فیك الرغبة في السعي إلى شيء آخر جدید؛ فعلیك أن تقتنص رغبة الإنسان في الخیال، ومتعته في السعي وراء مخیلته، وفي هذا الجانب ینبغي أن تكون جهودك متجددة باستمرار؛ ففي اللحظة التي یحصل فیها الناس على ما یریدونه أو یتملكونك بأن تكون مكشوفًا لهم تمامًا تأخذ قیمتك في أعینهم واحترامهم لك بالانحدار فورًا، فحافظ على الانسحاب من مرأى الناس، وفاجئهم باستمرار؛ لتحثهم على السعي وراء ما تریده، وما دمت تقوم بذلك فأنت صاحب القوة والغلَبة.
الرغبة الأسمى
لا بد لنا دائمًا في مسار حیاتنا من التوجه إلى زیادة وعینا بطبیعتنا؛ فلا بد أن نرى في أنفسنا متلازمة العشب دائمًا أكثر خضرة وهي تعمل، وكیف تفرض علینا باستمرار تصرفات معینة، ولا بد لنا من تمییز میول التشهي عندنا بین ما هو إیجابي وله ثماره النافعة، وبین ما هو سلبي وله ثماره الضارة، فمن الجانب الإیجابي یمكن أن یدفعنا الشعور بالقلق وانعدام الرضا إلى البحث عما هو أفضل، وعدم الركون إلى ما لدینا، وهو یوسع تصوراتنا حیث ندرس احتمالات أخرى بدلًا من الظروف التي نواجهها، ومع تقدمنا في العمر، نمیل إلى التهاون أكثر فأكثر؛ وتجدیدنا الامتعاض الذي عشناه في أیام حداثتنا، یمكن أن یبقینا شبابًا بأذهان وقَّادة.
إلا أن هذا الامتعاض یجب أن یكون تحت سیطرتنا الواعیة، وعادة ما یكون عدم رضانا أو سخطنا مزمنًا ببساطة؛ فرغبتنا في التغییر رغبةٌ مبهمة، وهي تُظهر السأم الذي یبرِّحنا،ویفضي ذلك بنا إلى إضاعة وقت ثمین؛ فنحن غیر سعداء بالطریقة التي تجري بها حیاتنا المهنیة، فنقوم بتغییرٍ كبیر فیها؛ وهذا یتطلب منا تعلم مهارات جدیدة، وكسب علاقات جدیدة، فنستمتع بكل ما هو جدید مستطرَف، لكننا بعد بضع سنوات من ذلك نشعر مرة أخرى بتحرك السخط فینا، فنرى هذا المسار الجدید لا یناسبنا أیضًا؛ إذًا فالخیر لنا أن نُعمِل فكرنا في الأمر عمیقًا؛ فنتوجه إلى الجوانب التي لم تنجح معنا في مهنتنا السابقة، ونحاول القیام بالتغییر اللطیف، فنختار مسارًا في عملنا یرتبط بمهنتنا السابقة، ویتطلب منا أن نكیِّف مهاراتنا معه.
أما في علاقاتنا العاطفیة فقد نُمضي حیاتنا بحثًا عن المرأة المثالیة أو الرجل المثالي، وینتهي بنا الأمر إلى الوحدة غالبًا، فما من إنسان مثالي؛ وبدلًا من بحثنا ذاك فإن الأفضل لنا أن نتقبل عیوب الشخص الآخر، ونرضى به، أو نجد حتى شیئًا من الجاذبیة في نقاط ضعفه؛ فبتهدئتنا لرغبات التشهي عندنا وتعفُّفنا عن الرغائب، فإننا نتعلم فنون التوصل إلى الحلول الوسط، ونتعلم كیفیة إنجاح علاقتنا العاطفیة؛ وهو أمر لا یتأتى بسهولة أبدًا، ولا یُنال بصورة طبیعیة.
فبدلًا من سعینا الدائب وراء آخر التوجهات التي یسیر فیها الناس، وصوغنا رغباتنا بناء على ما یجده الآخرون مثیرًا لهم، علینا أن ننفق وقتنا في تعرُّفِ أذواقنا ورغباتنا أفضل تعرُّف، بحیث نستطیع التمییز بین شيء نحتاجه بحق، وبین شيء نریده؛ لأن أصحاب الدعایات صنعوه لنا، أو لأنه وصلنا بتأثیر العدوى من الآخرین.
فالحیاة قصیرة، وطاقتنا فیها محدودة للغایة. وإذا انجررنا وراء رغباتنا في التشهي فإننا قد نضیع كثیرًا جدا من الوقت في عملیات بحثٍ وتغییرٍ لا طائل منها، وبصورة عامة، لا تنتظر دائمًا شیئًا أفضل مما لدیك، وتأمل أن یتحقق، بل استفد مما هو لدیك فعلًا أعظم الاستفادة.
وانظر إلى الأمر بالطریقة الآتیة: أنت مغروس في بیئة تتكون من أناس تعرفهم، وأماكن تتردد إلیها، فهذا هو واقعك. إلا أن عقلك ینجذب باستمرار إلى ما هو بعید عن هذا الواقع، وذلك بسبب الطبیعة البشریة، فتحلم بالسفر إلى أماكن نائیة، لكنك إذا ذهبت إلى هناك، فإنك ستجر معك قالب السخط في ذهنك، وتبحث عن تجربة تعطیك رؤًى جدیدة تغذي مخیلتك، وتقرأ كتبًا تفیض بالأفكار التي لا صلة لها بحیاتك الیومیة؛ بل تملؤها افتراضات فارغة عن أشیاء تكاد لا تكون موجودة، ولا شيء من هذا الاضطراب، والرغبات التواقة إلى ما هو بعید كل البعد، سیوصلك إلى ما یلبي لك مطامحك؛ بل إنه لا یعدو أن یثیر فیك أوهامًا جدیدة تطاردها، وفي النهایة: لن تستطیع الهروب من نفسك.
ومن الناحیة المقابلة تكون غارقًا في الواقع. فینشغل عقلك بما هو قریب منك، بدلًا مما هو شدید البعد عنك، فیحدِث فیك شعورًا مختلفًا كل الاختلاف؛ فبالنسبة للناس الذین في محیطك تراك تستطیع الاتصال بهم دائمًا بمستویات أكثر عمقًا، وهناك الكثیر مما لم تكن لتعرفه مطلقًا عن الناس الذین تتعامل معهم؛ ویمكن لذلك أن یكون مصدرًا لسحر یجذبك
لا ینتهي، فبات بوسعك الاتصال بعمق أكبر مع محیطك، فالمكان الذي تعیش فیه له تاریخ موغل في القدم، بإمكانك أن تغمس نفسك فیه، ومعرفتك بمحیطك بصورة أفضل ستمنحك فرصًا كثیرة لامتلاك أسباب القوة، كذلك الأمر في نفسك؛ فهناك زوایا غامضة قد لا تفهمها تمام الفهم أبدًا؛ ففي محاولتك لزیادة معرفتك بنفسك یمكنك أن تأخذ بزمام طبیعتك الخاصة، بدلًا من أن تكون عبدًا لها، كذلك فإن عملك له احتمالات لا حصر لها في التحسین والابتكار؛ إنها تحدیات لا تحدُّها حدود في تصوراتك، فهذه هي الأشیاء الأقرب إلیك، التي تشكل عالمك الحقیقي، لا الافتراضي.
وفي النهایة فإن ما علیك فعلًا أن تشتهیه هو علاقة أكثر عمقًا بالواقع؛ فهذه العلاقة هي التي تمنحك السكینة، والتركیز، والقوى العملیة؛ لتغییر ما یمكن تغییره.
من الحكمة أن تترك كل من تعرفه -رجلًا كان أو امرأة- یشعر الآن ولاحقًا بأن بإمكانك أن تستغني بسهولة عن صحبته؛ فهذا أمر یعزز الصداقة. كلا، لن یكون ثمة ضرر بالنسبة لمعظم الناس في أن تخلط بین فینة وأخرى ذرة ازدراء بمعاملتك لهم؛ فذلك سیجعلهم یُعلُون من قیمة صداقتك معهم أكثر وأكثر ... لكننا إذا نظرنا إلى شخص نظرة تقدیر عالیة جدا، فعلینا أن نخفیها عنه، وكأننا نخفي جرمًا ارتكبناه، ولعل ذلك لا یبعث فینا السرور والرضا، إلا أنه الصواب. لماذا؟ لأن الكلب لا یتحمل أن یعامل بلطف بالغ، فما بالك بالإنسان!.
آرتور شوبنهاور