17‏/08‏/2015

مطارحات مكيافيلي 30

مطارحات مكيافيلي  30


                                    الدين

       أهل هذه المدينة كانوا أكثر خوفا من الحنث بيمين , من مخالفة القانون , إذ انهم يجلون سلطان الله , اكثر من اجلالهم لسلطان الانسان .

      حيث يوجد الدين يصبح من السهل تعليم الناس على استخدام السلاح , اما حيثما توجد الاسلحة , ولا يكون ثمة وجود للدين , يضحى من الصعب ادخاله ونشره .

       احترام العبادة السماوية يكون مصدر العظمة فى الجمهوريات , فان اهمال هذه العبادة يؤدى الى خرابها .

       الممالك التى ترتكز الى فضيلة رجل واحد , لا يقدر لها ان تعمر طويلا , اذن ان هذه الفضيلة تزول بموت هذا الرجل , ومن النادر ان تبعث فى خلفه .

       على كل من يرغب من الأمراء والجمهوريات فى البقاء فى نجوة من الاحتلال , ان يحتفظ بنقاء طقوس التى يؤمن الأمير او الجمهورية بها , وان يحلها محل الاجلال دائما , اذ لا دليل اصدق على انحطاط أى بلد من البلاد من رؤية العبادة السماوية فيها موضع الاهمال وعدم الاكتراث .

        ندين للكنيسة ورجالها بشئ اعظم , ولعله هو السبب الثانى فيما لحق بنا من خراب .

 فالكنيسة هى التى جزأت ايطاليا وما زالت تحافظ على تجزئتها .

        هكذا فان الكنيسة لم تكن فى يوم ما قادرة على احتلال ايطاليا بأسرها , كما لم تسمح لغيرها باحتلالها . وعلى هذا فقد كانت السبب فى الحيلولة دون وجود ايطاليا تحت حكم رأس واحد .

                              
     الطرق التى استخدم الرومان الدين فيها لإعادة تنظيم مدينتهم , وتنفيذ مشاريعهم وتهدئة الفتن التى تعرضوا لها .

     كان الجنود الرومان , وقد انهكوا طول الحصار , راغبين فى العودة الى رومة , عندما اكتشف بان الاله (ابولو) وعددا من العرافين كانوا قد قالوا بأن مدينة فى ستحتل فى العام الذى ترتفع فيه مياه بحيرة ألبا . وقد دفع هذا النبأ الجنود الى احتمال متاعب الحصار , وذلك لنهم غدوا واثقين من احتلالهم للمدينة .

      الرومان يفسرون النذر وفق حاجاتهم , وكانوا من الحكمة بحيث يتظاهرون بالتمسك بالدين عندما يرغمون على تجاهله , ويعاقبون الطائشين الذين يحطون من قدره .
      لم يكونوا يشرعون فى أية حملة من الحملات الا بعد ان يكونوا قد اقنعوا قواتهم بأن الآلهة قد وعدتهم بالنصر .

      كان بين الأسس الأخرى للعرافة , تعيينهم فى جيوشهم عددا معينا من الموظفين الذين تقوم مهمتهم على جمع الفؤول أو البشائر , ويطلق عليهم اسم (رجال الطير) .

      قد استخدم بابيريوس القنصل مثل هذا الحذق , فى معركة مهمة خاضهما مع السمنيين , الذين غدوا بعدها ولا حول لهم ولا طول . فلقد كان بابيريوس معسكرا برجاله أمامهم , وبدا له انه اذا ما خاض معركة معهم , فسينتصر حتما , ولذا فقد طلب الى (رجال الطير) جمع الفؤول لتحديد اليوم الذى سيخوض فيه معركته .

ولكن الطير لم تقبل على التقاط الحب . ولاحظ رئيس هؤلاء الرجال , ان الجيش اللجب , قد اصبح على أهبة خوض المعركة , وقد اتخذ صفوفه لخوضها , وان أفراد هذا الجيش كانوا جميعا يؤمنون كقائدهم فى انتصارهم .

 ورأى ان لا يحرم الجيش من مثل هذه الفرصة الرائعة العرافة ملائمة , وهكذا أصدر بابيريوس أمره الى جنوده بالهجوم . وفى غضون ذلك , كان البعض من (رجال الطير) قد أفشوا الى بعض الجنود ان الطير لم يلتقط الحب , كما ابلغوا الحقيقة الى سبيريوس بابيريوس ابن اخى القنصل , الذى نقل النبأ بدوره الى عمه . وهنا طلب اليه القنصل ان يهتم بشؤونه , وان يكون حريصا على الاهتمام بها . اما بالنسبة اليه والى جيشه فلقد كانت العرافة طيبة , اما اذا كان رجل الطير قد كذب , فأنه سيتأكد من ذلك فيما بعد . ورغبة منه فى ان تتفق النتيجة مع الدلالة , أصدر أمره الى مبعوثيه , ليحملوا (رجال الطير) الى مقدمة المعركة .

 وحدث انه بعد وقوع الهجوم على العدو , قتل رئيس الرجال عرضا بسهم قذف به جندى رومانى . 

وعندما سمع القنصل بالقصة قال , ان كل شئ يسير على ما يرام , وان الشكر فى ذلك يجب ان يوجه الى الآلهة  ان موت هذا (الأفاك) , قد حرر الجيش من كل تبعة , ومن كل غضب قد حملته الآلهة بسبب مخالفة أوامرها . وهكذا تمكن القنصل عن طريق التوفيق توفيقا رائعا بين خططه وبين الفؤول , من الاشتباك مع العدو والتغلب عليه , دون ان يثير الشكوك لدى الجيش بأنه قد أهمل بأية طريقة من الطرق الأوامر التى نص عليها الدين .

       لم تؤد هذه العادة فى استثارة البشائر , الى أية نتيجة سوى حمل الجنود على الذهاب بثقة الى المعركة ؛ وهى ثقة تؤدى فى الغالب الى النصر .

       كان السمنيون يلجأون الى الدين كملاذ أخير عندما تسوء أوضاعهم .

       لما كانوا يعرفون ضرورة تطعيم عقول جنودهم بالعزيمة الحرون على النصر ويعرفون ان ليس ثمة سبيل أفضل الى ذلك من الدين , فقد قرروا تلبية لنصيحة كاهنهم اوفيوس باكيوس , بعث احد تقاليدهم السابقة فى تقديم الاضاحى .

وكان الطقس الجديد الذى ساروا بموجبه , ان يقدموا ضحية مقدسة , وان يحملوا جميع ضباط جيشهم على الوقوف بين الضحية الميتة , وبين المذابح التى تضيئها المشاعل وان يقسموا انهم لن يتوانوا قط عن القتال , ثم يستدعون جنودهم واحدا واحدا , ويحملونهم على الوقوف بين المذابح وسط لفيف من قادة الفئات الذين اشرعوا سيوفهم فى ايديهم , ومن ثم يقسمون على عدم البوح بما يرونه أو يشاهدونه . ثم يحملونهم بعد ذلك على ان يتوجهوا بوعودهم بوعودهم الى الآلهة , 

مصحوبة باللعنات والتعويذات المخيفة على انهم سيكونون متأهبين للذهاب الى حيث يأمر القادة العسكريون , و انهم لن يفروا قط من حومة الوغى , و انهم سيقتلون كل من يرونه فارا , فإذا تقاعسوا عن ذلك كله , حقت لعنة الآلهة على رؤوس جميع افراد عائلاتهم و اطفالهم . وقد فزع بعض الجنود وترددوا فى القسم , فبادر قادة الفئات الى قتلهم فورا بسيوفهم المشرعة , وقد ارتعب من جاء بعدهم من هول المنظر , فأقبلوا على القسم طائعين . وليضفوا على هذا الاجتماع الذى ضم اكثر من اربعين الف رجل بعض الجلال , ألبسوا نصفهم الملابس البيضاء , ورفعوا ريش الطيور فوق خوذاتهم , ثم مشوا على هذا الشكل ليأخذ الجيش اماكنه على مقربة من اكويلونيا .


        ومضى بابيريوس الى لقائهم , وقال لجنوده تشجيعا لهم ان ( الهامات والريش لا تحدث جراحا , وان السهام الرومانية تنفذ من الدروع الملونة والمذهبة ) . ورغبة منه فى ابعاد أى انطباع كاذب عن جنوده من جراء القسم الذى أقسمه جنود العدو , قال ان تأثيره سيكون فى اخافتهم لا فى تقويتهم , اذ انهم يخشون الآن وفى وقت واحد مواطنيهم و الهتهم و اعداءهم . 


0 التعليقات: