مطارحات مكيافيلي 36
الطلب الشائع
للاشتراك فى الحكم
ينتقل الناس من طموح إلى آخر وبعد النضال
ضد المعاملة السيئة , يعملون على ايقاعها بغيرهم .
تنشأ جميع الامثلة السيئة من بدايات طيبة
.
أول ما ينشده الرجال الطموحون الذين
يعيشون فى احدى الجمهوريات , هو ان ينجوا كما سبق لى ان قلت من سوء المعاملة سواء
ما كان منها من الاشخاص العاديين او من الحكام .
وللحصول على هذا الأمن , يعمل
هؤلاء الرجال على اقامة صداقات بطرق تبدو شريفة , كتقديم العون المالى , او تأمين
الحماية من الاقوياء .
ولما كان هذا العمل يبدو شريفا وفاضلا , فأن كل انسان يخدع
به بسهولة , ولذا فهو لا يكترث به , ممل يؤدى الى ان مثل هؤلاء الرجال الذين
يثابرون على تنفيذ خططهم , والذين لا يواجهون أية عقبة , يتوصلون الى مركز يخشاه
المواطنون العاديون , ويجد الحكام أنفسهم مرغمين على احترامه .
وعندما يصلون الى
هذه المكانة العالية , دون ان يلقوا فى طريقهم أية عقبة حقيقية , تحول بينهم وبين
العظمة , يغدون فى مركز , يكون من الخطر كل الخطر مهاجمتهم فيه للأسباب التى سبق
لى ان اوضحتها , كالخطر الكامن فى محاولة انتزاع جائحة من دولة , بعد ان نمت فيها
الى الحد الذى اوصلها الى أبعاد كبيرة ومهمة .
وهكذا يتطور الوضع فى النهاية على
النحو التالى : اما ان يتطلع نفسه لخطر الخراب السريع , او ان يسمح له بالاستمرار
فى طريقه , مع توقع حياة العبودية فى ظله , الا اذا جاء الموت او حادث سريع لنجدته
, واطلاق سراحه .
على الرغم من ان الناس يخطئون فى القضايا
العامة الا انهم لا يخطئون فى المسائل المعينة .
عندما جاء دور انتخاب حماة الشعب , وكان فى
وسع العامة انتخاب الحماة الأربعة من ابناء طبقتهم , الا ان الذين انتخبوا بالفعل
كانوا جميعا من النبلاء .
عندما حان الوقت لتقرير أيهم يجب انتخابه
من بين اعضاء حزبهم اقروا بما هم عليه من ضعف , وقضوا بأن أيا منهم لا يستحق
الوصول الى ذلك الشئ الذى كانوا يعتقدون بجدارتهم فيه كمجموع لا كأفراد , وعندما
أحسوا بعدم كفاية رجالهم , وجدوا ان من الضرورى العودة الى اولئك الذين يستحقون
المنصب .
لتأكيد هذه النظرية أرى ان اورد مثالا
بارزا آخر , حدث فى كابوا , بعد ان تمكن هانيبال من هزم الرومان فى كانية .
وكانت
هذه الكارثة , قد أثارت ايطاليا بأجمعها , ونشبت بصورة خاصة اضطرابات فى كابوا ,
بسبب الكراهية التى كانت قائمة بين الشعب ومجلس الشيوخ .
وأدرك باكوفيوس كالفيوس
الذى كان آنذاك اكبر حاكم فى المدينة , الخطر الذى تتعرض له مدينته من هذه الفتن ,
فأخذ يدرس احسن السبل التى يمكن له ان يلجأ اليها بحكم منصبه , ليوجد التفاهم بين
العامة والنبلاء . ووضع الرجل خطة نفذها .
فقد استدعى مجلس الشيوخ , وابلغ اعضاءه
الكراهية التى يحملها الشعب لهم , وان هذه الكراهية تعنى انهم معرضون لخطر القتل ,
وان المدينة معرضة لخطر التسليم لهانيبال , وذلك بالنسبة الى الحالة المحزنة التى
كان الرومان قد وصلوا اليها .
و اضاف الرجل , انهم لو تركوا القضية اليه لمعالجتها
, فانه سيتصرف على النحو الذى يضمن عودتهم الى الاتحاد , ولكنه يقترح ان يغلق
عليهم ابواب قصره , وانه رغبة منه فى انقاذهم سيلجأ الى ادعاء السلطان الذى يظهر
للشعب انه قد اوقع العقاب الذى يريده بهم . و اذعن الشيوخ لنصيحته , وعندما تم له
حصر جميع الاعضاء فى القصر , دعا الشعب الى اجتماع عام , وأبلغه ان الوقت قد حان
لكى يصبح فى امكانه اذلال كبرياء النبلاء , والوصول الى ما يبغيه افراده من ثأر
منهم , بالنسبة الى ما سبق لهم ان الحقوه بالشعب من اضرار , بعد ان تم له أخذ جميع
اعضاء المجلس فى أسره .
وأضاف انه واثق على أى حال , من ان الشعب لا يريد ان تبقى
مدينته بدون حكومة , وهكذا فاذا كان من رأيه قتل جميع الشيوخ السابقين , فان من
الضرورى تعيين شيوخ آخرين بدلا منهم ولما كان قد وضع هذه الغاية نصب عينيه , فقد
وضع اسماء جميع الشيوخ على أوراق فى كيس , وقال انه سيشرع فى سحب كل ورقة تحمل
اسما , واحدة اثر اخرى بحضور أفراد الشعب واضاف انه سيعدم كل من تسحب الورقة التى
تحمل اسمه , واحدا بعد آخر , بعد ان يكون الشعب قد وجد له من يخلفه فى المجلس .
وشرع بعد ذلك فى اخراج اول اسم من الاسماء .
وهبت عاصفة من الضجيج عند سماع الاسم
بين الماس ,. فقد لقبوا صاحبه بالمتكبر والعديم الشفقة والمتغطرس . ودعاهم
باكوفيوس بعد ذلك الى تعيين من يخلفه , و اذا بالأصوات تخفت مرة واحدة , وبعد فترة
من التوقف , رشح البعض احد العامة .
وعندما تلى اسم المرشح شرع بعضهم فى الصفير ,
والبعض الآخر فى الضحك , بينما أخذ آخرون يهزأون به من ناحية أو من اخرى . وهكذا
مضى الوقت ساعة اثر ساعة , الى ان اتخذ القرار بأن جميع من رشحوا لا يعتبرون اهلا
لعضوية الشيوخ .
وهنا انتهز باكوفيوس الفرصة ليقول : لما كنتم تعتقدون ان المدينة
لا تستطيع البقاء بلا مجلس شيوخ , ولما كنتم لم تتفقوا على من يخلف الشيوخ القدماء
, فانى اعتقد بأن السبيل الأمثل , هو ان تتفقوا معهم , لا سيما وان الخوف الذى
استحوذ على الشيوخ فى هذه الآونة , لا بد وان يكون قد اذلهم , بحيث ستجدون منهم
ذلك الاعتدال الذى كنتم تبحثون عنه فى مكان آخر .
ووافق العوام على هذا الاقتراح ,
وتحققت الوحدة بهذا الاجراء , لا سيما وان الاخطاء التى كانوا فى سبيل اقترافها قد
اكتشفت فور ارغامهم على الانتقال على الانتقال من المسائل العامة الى المسائل المعينة
.
للحيلولة دون اعطاء منصب رسمى الى شخص
حقير أو شرير يجب ترشيح آخر لهذا المنصب على ان يفوق الأول حقارة أو شرا أو يكون
مثالا للنبل والطيبة .
عندما كان مجلس الشيوخ , لا يتوقع الا
توقعا جزئيا , تعيين بعض العوام فى مناصب حماة الشعب (التربيون) الذين يحملون
سلطانا قنصليا , لجأ الى احدى هاتين الوسيلتين .
فكان يقبل اما على ترشيح اكثر
الناس شرفا ونبلا فى رومة , او كان يلجأ من الناحية الاخرى الى وسائل مناسبة لشراء
أحد العوام المعروفين بأنهم من الاوغاد او التافهين , ويدفع به الى الاختلاط بالعوام
من ذوى المكانة العالية , الذين قد يقفون كمرشحين فى الظروف العادية , لكى يضمن
ترشيحه معهم .
وكانت هذه الوسيلة الثانية تحمل العامة على الخجل من اعطاء الرجل
المنصب الذى يطمع فيه , بينما كانت الوسيلة الاولى تحملهم على الخجل من عدم تقديمه
اليه .
إذا كانت الدول المدينية التى كانت حرة
منذ استهلالها , كرومة مثلا تجد ان من الصعب عليها صياغة القوانين التى تضمن
حريتها , فان تلك الدول التى تخلصت قبل قليل من حياة العبودية لا بد وأن تلقى نفس
الصعوبة والاستحالة .
لقد كان النظام الذى اتبعته رومة فى هذا
الصدد صالحا كل الصلاح , اذ كانت تسمح بحق الاستئناف الى الشعب عادة , و اذا ما
ثارت قضية , يكون التأجيل فيها بانتظار الاستئناف خطرا على المدينة , فقد كان
المتبع , ان يوكل بها الى ديكتاتور يحسم موضوعها رأسا , مع العلم ان الرومان لم
يكونوا يلجأون الى مثل هذا الاجراء إلا عند الضرورة القصوى .
رومة التى كان لها دستورها الخاص بها ,
والذى وضعه عدد كبير من حكماء الرجال .
واجهت دائما حاجات ناشئة جديدة , ارغمتها
على ادخال انظمة جديدة , لدعم الحريات التى تمتعت بها , ولذا لم يكن من المستغرب ,
ان تنشأ فى المدن الاخرى التى كانت تفتقر الى النظام منذ قيامها , مثل هذه
الصعوبات , التى جعلتها عاجزة دائما عن تنظيم شؤونها فى سبيل سوى .