مقاصد الشريعة الإسلامية 25
الملك والتكسب
لإثراء الأمة وأفرادها طريقان : أحدهما
التملك , والثانى التكسب . وقد مضت الإشارة إليهما إجمالا فى مبحث مقصد تعيين
الحقوق لأصحابها .
فالتملك هو أصل الإثراء البشرى , وهو اقتناء
الأشياء التى يستحصل منها ما تسد به الحاجة بغلاته أو بأعواضه , أى أثمانه .
والأصل الأصيل فى التملك الاختصاص , فقد
كان من أصول الحضارة البشرية أن يدأب المرء إلى تحصيل ما يحتاج إليه لتقويم أود
حياته وسلامته .
البنوك : جمع بنك كلمة فرنسية
مأخوذة من كلمة : بانكو فى اللغة اللاتينية ومعناها محل جلوس للكتابة أو مجلس
مطلقا , ثم أطلقت على المقعد الذى يتخذه الصيرفى لصرف النقود ,ثم توسعوا فيه فصار
بمعنى الدار التى يشتغل فيها جماعة من الصيارفة للصرف , وتحويل الحوالات التجارية
والسفاتج .
كانت أسباب التملك فى الشرع هى :
ـ الاختصاص بشئ لاحق لأحد فيه كإحياء
الموات .
ـ والعمل فى الشئ مع مالكه كالمغارسة .
ـ والتبادل بالعوض كالبيع والانتقال من
المالك إلى غيره كالتبرعات والميراث
.
أصل الشريعة
فى تصرفات الناس فى أموالهم و مملوكاتهم هو إطلاق التصرف لهم للأحرار الرشداء منهم
فلا ينتقض ذلك الأصل إلا إذا كان المالك غير متأهل لذلك التصرف وقصور
التصرف يكون لصبى أو سفه (أى : اختلال العقل فى التصرف المالى) أو إفلاس مدين أو
عدم حرية أو حجر فى جميع المال , أو بعضه فهذا فى التبرع مما ادعى الثلث من مريض
مرضا مخوفا , ومن تصرف معلق مما بعد الموت وهو الوصية , وما يؤول إليها من تبرع ,
وتبرع ذات الزوج بما زاد على ثلث مالها .
أما التكسب فهو معالجة إيجاد ما
يسد الحاجة إما بعمل البدن أو بالمرضاة مع الغير .
وأصول
التكسب ثلاثة : الأرض , والعمل , ورأس المال .
للأرض المكانة الأولى فى هذه الأصول
الثلاثة .
أما العمل فهو وسيلة استخراج معظم منافع
الأرض .
وهو أيضا طريق لإيجاد الثروة بمثل الإيجار
والاتجار .
أما رأس المال فوسيلة لإدامة العمل
للإثراء , وهو : مال مدخر لإنفاقه فيما يجلب أرباحا وإنما عد رأس المال من أصول الثروة لكثرة
الاحتياج إليه .
المقصد الشرعى فى الأموال كلها خمسة أمور : رواجها , ووضوحها , وحفظها , وثباتها ,والعدل فيها .
فالرواج دوران المال بين أيدى
أكثر من يمكن من الناس بوجه حق .
وهو مقصد عظيم شرعى
دل عليه الترغيب فى المعاملة بالمال ومشروعية التوثق فى انتقال الأموال من يد إلى
أخرى .
قال النبى (صل الله عليه وسلم)
: ما من مسلم يزرع زرعا أو يغرس غرسا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له
به صدقة .
محافظة على مقصد الرواج شرعت عقود المعاملات لنقل حقوق الملكية بمعاوضة أو
بتبرع وهى من قسم الحاجى كما تقدم .
تسهيلا للرواج شرعت عقود
مشتملة على شئ من الغرر مثل : المغارسة و السلم والمزارعة والقراض . حتى عدها بعض
علمائنا رخصا باعتبار أنها مستثناة من قاعدة الغرر , وإن لم يكن فيها تغيير حكم من
صعوبة إلى سهولة لعذر .
لأجل مقصد الرواج كان الأصل فى العقود
المالية اللزوم دون التخيير إلا بشرط .
من معانى
الرواج المقصود انتقال المال بأيد عديدة فى الأمة على وجه لا حرج فيه على مكتسبه .
تيسير دوران المال على آحاد الأمة وإخراجه
عن أن يكون قادرا فى يد واحدة متنقلا من واحد إلى واحد مقصد شرعى , فهمت الإشارة
إليه من قوله تعالى فى قسمة الفئ : (كى لا يكون دولة
بين الأغنياء منكم) . فالدُولة بضم الدال تداول المال وتعاقبه أى :
كيلا يكون مال الفئ يتسلمه غنى من غنى .
أوجب الوصية للأقارب بأية : (كتب عليكم
إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على
المتقين) .
ثم نسخ بشرع المواريث المبين فى القرآن والسنة ,
ولم يجعل لصاحب المال حق فى صرفه بعد موته إلى فى ثلث ماله أن يوصى به لغير وارث ,
فتم مقصد التوزيع بحكمة وهى جعل المال صائرا إلى قرابة صاحبه ؛ لأن ذلك مما لا
تشمئز منه نفسه , ولأن فيه عونا على حفظ المال فى دائرة القبيلة . وإنما تتكون
الأمة من قبائلها فيؤول إلى حفظه فى دائرة جامعة الأمة .
من وسائل رواج الثروة القصد إلى
استنفاد بعضها وذلك بالنفقات الواجبة على الزوجات والقرابة فلم يترك ذلك
لإرادة القيم على العائلة بل أوجب الشرع عليه الإنفاق بالوجه المعروف .
من طرق الاستنفاد نفقات التحسين و الترفه
, وهى وسيلة عظيمة لانتفاع الطبقتين الوسطى والدنيا فى الأمة من أموال الطبقة
العليا . وهى أيضا عون عظيم على ظهور مواهب أهل الصنائع والفنون فى تقديم نتائج
أذواقهم وأناملهم .
الشريعة لم تعمد إلى هذا النوع من
الاستنفاد بالطلب الحثيث اكتفاء بما فى النفوس من الباعث عليه .
من وسائل
رواج الثروة تسهيل المعاملات بقدر الإمكان وترجيح جانب ما فيها من المصلحة على ما
عسى أن يعترضها من خفيف المفسدة .
الأصل فى سهولة الرواج يعتمد : خفة
النقل , وقبول طول الادخار , ووفرة الرغبات فى التحصيل , وتيسر التجزئة إلى أجزاء
قليلة .
أهم ما اصطلح عليه البشر
فى نظام حضارتهم المالية وضع النقدين أعواضا للتعامل .
التعامل بالنقدين أيسر من التعامل
بالأعيان من الأشياء من سائر الجهات .
إلا أن النقدين عند حالة الاضطرار مثل
حالة الحصار وحالة الجدب والمجاعة لا تغنى عن أصحابها شيئا , فالنقدان عوضان
صالحان بغالب أحوال البشر , وهى أحوال الأمن واليسر والخصب .
من أحسن ما ظهر فيه مزية التعامل
بالنقدين أنه يمكن فيه تمييز البائع من المشترى ؛ فباذل النقد مشتر وباذل العوض
بائع .
كان كثير
من التعامل فى الإسلام فى عهد النبوة حاصلا بطريقة المعاوضة .
فلذلك كثرت المنهيات من بيع الأشياء بأمثالها ؛ لأن غالب تلك البيوع كان
يتطرقه الغرر والتغابن , ولعسر ضبط قيمة العوض , ولكثرة اختلاف صفات وأنواع فى
الجودة والرداءة والجدة والقدم .
ظهر من هذا كله أن من مقاصد الشريعة تكثير
التعامل بالنقدين ليحصل الرواج بهما .
وما أحسب نهى رسول الله (صل الله عليه
وسلم) عن استعمال الرجال الذهب والفضة إلا لحكمة تعطيل رواج النقدين بكثرة
الاقتناء المفضى إلى قلتهما .
أما وضوح
الأموال فذلك إبعادها عن الضرر والتعرض للخصومات بقدر ؛ الإمكان ولذلك
شرع الإشهاد والرهن فى التداين.
أما حفظ
الأموال فأصله قول الله تعالى : (يا أيها الذين ءامنوا لا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم).
وقول النبى (صل الله عليه وسلم) فى خطبة
حجة الوداع : (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام , كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى
بلدكم هذا) وقوله : (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) . وقوله : (من قتل دون
ماله فهو شهيد) وهو تنويه بشأن حفظ المال والمحافظة عليه وعظم إثم المعتدى عليه .
وإذا
كان ذلك حكم حفظ مال الأفراد فحفظ مال الأمة أجل و أعظم .
حق على ولاة
أمور الأمة و متصرفى مصالحها العامة النظر فى حفظ الأموال العامة سواء تبادلها مع
الأمم الأخرى وبقاؤها بيد الأمة الإسلامية .
فمن
الأول : سن أساليب تجارة الأمة
مع الأمم الأخرى , ودخول السلع وأموال الفريقين إلى بلاد الأخرى كما فى أحكام
التجارة إلى أرض الحرب , وأحكام ما يتخذ من تجار أهل الذمة والحريين على ما
يدخلونه من السلع إلى بلاد الإسلام وأحكام الجزية والخراج .
ومن الثانى : نظام الأسواق
والاحتكار وضبط مصارف الزكاة والمغانم ونظام الأوقاف العامة .
وحق على من ولى مال أحد أن يحفظه ،وحق على كل أحد احترام مال غيره ؛ ولذلك تقرر
غرم المتلفات وجعل سببها الإتلاف ولم يلتفت فيها إلى نية الإتلاف ؛ لأن النية لا
أثر لها فى ذلك .
أما إثبات
الأموال فأردت به تقررها لأصحابها بوجه لا خطر فيه ولا منازعة .
فمقصد
الشريعة فى ثبات التملك والاكتساب أمور .
الأول : أن يختص المالك الواحد أو المتعدد بما تملكه بوجه
صحيح بحيث لا يكون فى اختصاصه به وأحقيته تردد ولا خطر . فليس يدخل على أحد فى
ملكه منع اختصاصه إلى إذا كان لوجه مصلحة عامة .
الثانى : أن يكون صاحب المال حر التصرف فيما تملكه أو اكتسبه
تصرفا لا يضر بغيره ضرا معتبرا ولا اعتداء فيه على الشريعة .
الثالث : أن لا ينتزع منه بدون رضاه
. إذا تعلق حق الغير بالمالك وامتنع من ادائه ألزم بأدائه . ومن هنا جاء بيع
الحاكم والقضاء بالاستحقاق .
ولرعى هذا المقصد
كان المتصرف بشبهة فى عقار فائزا بغلاته التى استغلها إلى يوم الحكم عليه بتسليم
العقار لمن ظهر أنه مستحقه .
تقريرا لهذا المقصد قررت الشريعة التملك
الذى حصل فى زمان الجاهلية بأيدى من صار إليهم فى تلك المدة ومن انتقل إليهم منها
. فقد قال رسول الله (صل الله عليه وسلم) : (أيما دار أو أرض قسمت فى الجاهلية فهى
على قسم الجاهلية , و أيما دار أو أرض أدركها الإسلام فلم تقسم فهى على قسم
الإسلام) .
العدل فيها
فذلك بأن يكون حصولها بوجه غير ظالم , وذلك إما أن تحصل بعمل مكتسبها , وإما بعوض
مع مالكها أو تبرع , وإما بإرث .
ومن مراعاة العدل حفظ المصالح العامة ودفع
الأضرار .
وذلك فيما يكون من
الأموال تتعلق به حاجة طوائف من الأمة لإقامة حياتها , مثل الأموال التى هى غذاء
وقوت , والأموال التى هى وسيلة دفاع العدو عن الأمة مثل اللأمة و الآطام بالمدينة
فى زمن النبوة .
فتلك الأموال وإن
كانت خاصة بأصحابها إلا أن تصرفهم فيها لا يكون مطلق الحرية كالتصرف فى غيرها .
فى صحيح البخارى من حديث ابن عمر : أنهم
كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد النبوءة فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه
حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث يباع الطعام . وكانوا يضربون على أن يبيعوه حتى يؤوه
إلى رحالهم ؛ ولذلك كان من الحق إبطال الاحتكار فى الطعام .
وفى الموطأ أن عمر
بن الخطاب قال : (لا حكرة فى سوقنا لا يعمد رجال بأيديهم فضول من إذهاب إلى رزق من
رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا , ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده فى
الشتاء والصيف , فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء وليملك كيف شاء ) .
0 التعليقات:
إرسال تعليق