08‏/04‏/2015

مقاصد الشريعة الإسلامية 11

مقاصد الشريعة الإسلامية 11



                         بيان المصلحة و المفسدة
       الدية فى قتل الخطأ فإنها وجبت على القرابة من القبيلة وليس فيها فى ظاهر الأمر نفع لدافعيها حتى .

   فهي تبدو مصلحة خاصة للقاتل خطأ إذ استبقى ماله ولو كان النظر إلى تلك المصلحة الخاصة لكان النظر يوجب إلغاء مصلحة القاتل فى مقابلة مضرة أقاربه من قبيلته ولكن غوص النظر ينبئنا بأنها روعى فيها نفع عام , وهو حق المواساة عند الشدائد ؛ ليكون ذلك سنة بين القوم فى تحمل جماعاتهم بالمصائب العظيمة فهى نفع مدخر لهم فى نوائبهم , مع ما فى ذلك من إرضاء أولياء القتيل حتى تنزع الإحن من قلوبهم , تلك الإحن التى قد تدفعهم الى الاجتراء على إيذاء القاتل فإن فرحهم بمال الدية الكثير يجبر صدعهم ولو كلف القاتل دفع ذلك لأعوزه أو لصار بحالة فقر , فبذلك كله حصلت مقاصد الأمن والمواساة والرفق .

       مثال مراعاة مصلحة نظام العالم حياطة الشريعة المصالح المألوفة المطردة بسياج الحفظ الدائم ولو فى الأحوال التى يظن فوات المصلحة من سائر جوانبها كما يقال فى الشيخ الهرم المنهوك بالمرض الفقير الجاهل الذى لم يبق فيه رجاء نفع ما  .

فهو مع هذه الأحوال محترم النفس محافظة على مصلحة بقاء النفوس ؛ لأن مصلحة نظام العالم فى احترام بقاء النفوس فى كل حال من الأمر بالصبر على ما يلوح من شدة الأضرار اللاحقة لحياة بعض الأحياء كيلا يتطرق الوهم والاستخفاف بالنفوس الى عقول الناس فتتفاوت فى ذلك اعتباراتهم تفاوتا ربما يفضى الى خرق سياج النظام .

فالحفاظ على ذلك تأمين للأحياء من تلاعب أهواء نفوسهم بهم وتأمين لنظام العالم من دخول التساهل فى خرم أصوله .

       اعلم أن المصالح الخالصة عزيزة الوجود فإن تحصيل المنافع المحضة للناس كالمأكل والمسكن لا يحصل إلا بالسعى فى تحصيلها بمشقة الكد والنصب فإذا حصلت فقد اقترن بها من المضار والآفات ما ينغصها .

 واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح ودرء الأفسد فالأفسد مر كوز فى طبائع العباد , ولا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح أو شقى متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت .
       إن ضابط تحقق ذلك الحد أحد خمسة أمور :

       أولها : أن يكون النفع أو الضر محققا مطردا , فالنفع المحقق مثل الانتفاع بانتشاق الهواء , وبنور الشمس , والتبرد بماء البحر أو النهر فى شدة الحر مما لا يدخل فى الانتفاع به ضر غيره .

       الثانى : أن يكون النفع أو غالبا واضحا تنساق إليه عقول العقلاء والحكماء بحيث لا يقاومه ضده عند التأمل .

       الثالث : أن لا يمكن الاجتراء عنه بغيره فى تحصيل الصلاح وحصول الفساد .
       العبرة فى مناط الأحكام هو الأحوال الغالبة .

       الرابع : أن يكون أحد الأمرين من النفع أو الضر مع كونه مساويا لضده معضودا بمرجح من جنسه , مثل تغريم الذى يتلف مالا عمدا قيمة ما أتلفه .

       الخامس : أن يكون أحدهما منضبطا محققا والأخر مضطربا .

       وقال فى باب ما ينهى عنه من المساومة بعد أن ذكر حديث ابن عمر وأبى هريرة : (لا يبع بعضكم على بيع بعض) .

 وتفسير قول رسول الله (صل الله عليه وسلم) فيما نرى والله أعلم : ( إنه إنما نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه إذا ركن البائع إلى السائم وجعل يشترط وزن الذهب ويتبرأ من العيوب , ونحو هذا مما يعرف به أن البائع قد أراد مبايعة السائم فهذا الذى نهى عنه . ولو ترك الناس السوم عند أول ما يسوم بها أخذت بشبه الباطل فى الثمن ودخل الباعة فى سومهم المكروه ) .

       قال عز الدين بن عبد السلام : قاعدة فيما يعرف به الصالح والفاسد : أن مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها وأسبابها معروفة بالضرورات , والتجارب والعادات والظنون المعتبرات , فإن خفى شئ من ذلك طلب من أدلته , فمن أراد أن يعرف المصالح والمفاسد راجحها و مرجوحها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم بين عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد به عباده ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته .

       قد يغفل الحاذق الأفضل عن بعض ما يطلع عليه المفضول ولكنه قليل .

       قد أتى فى فضل اجتماع المصالح والمفاسد بأمثلة كثيرة أحسنها أن الحجر على المريض فيما زاد على ثلث ماله مضرة له ومفسدة تلحقه لكنه مصلحة لورثتهم فقدم حق ورثته فى ثلثى ماله .

 وأن وضع يد غير المالك على الملك مفسدة للمالك , ولذلك وجب الضمان بالإتلاف ولم تعتبر هذه المفسدة فى تصرفات الحكام إذا أخطأوا فى الاجتهاد فى الحكم فلم يجب الغرم على الحاكم تقديما لمصلحة إقدام القضاة على مفسدة المحكوم عليه خطأ .

      المنهيات كلها مشتملة على المفاسد .

      باعتبار مقادير المفاسد جعل الصحابة عقوبة اللوطيين (بصيغة التثنية) الرجم مساوية عقوبة الزانى المحصن سواء كانا محصنين أم لم يكونا محصنين ؛ لأنهم وجدوا مفسدة ذلك أشد والعذر عن فاعله أبعد .

وجعل على بن أبى طالب عقوبة شارب الخمر مساوية حد القذف لما رأى القذف مظنة لازمة للسكران غالبا .


      عقوبة الحرابة جعلت أشد من عقوبة قتل الغيلة فى التنكيل وعدم قبول العفو (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) وجعل قتل الغيلة غير قابل للعفو من الأولياء .

0 التعليقات: