مقاصد الشريعة الإسلامية 14
عموم شريعة الإسلام
قد أراد الله بحكمته أن يكون الإسلام آخر
الأديان التى خاطب الله بها عباده
لذا تعين أن
يكون أصله الذى ينبنى عليه وصفا مشتركا بين سائر البشر ومستقرا فى نفوسهم و مرتاضة
عليه العقول السليمة منهم، ألا وهو وصف الفطرة حتى تكون أحكام الشريعة مقبولة عند
أهل الآراء الراجحة من الناس الذين يستطيعون فهم مغزاها فيتقلبوا ما يأتيهم منها
بنفوس مطمئنة وصدور منثلجة فيتبعوها دون تردد ولا انقطاع .
العرب اختارهم الله لهذه الأمانة لأنهم
يومئذ امتازوا من بين سائر الأمم باجتماع صفات أربع لم تجتمع فى التاريخ لأمة من
الأمم , وتلك هى :
1-
جودة الأذهان .
2-
وقوة
الحوافظ .
3-
وبساطة الحضارة والتشريع .
4-
والبعد عن الاختلاط ببقية أمم العالم .
فهم بالوصف الأول : أهل لفهم الدين وتلقينه .
وبالوصف الثانى : أهل لحفظه وعدم الاضطراب فى تلقيه .
وبالوصف الثالث : أهل لسرعة التخلق به إذ هم أقرب إلى الفطرة السليمة ولم يكونوا
على شريعة معتد بها متماثلة حتى يصمموا على نصرها .
وبالوصف الرابع : أهل لمعاشرة بقية الأمم إذ لا حزازات بينهم وبين الأمم
الأخرى ، فإن حزازات العرب ما كانت إلا بين
قبائلهم بخلاف الفرس مع الروم ومثل القبط مع الإسرائليين .
مراعاة عادات الأمم المختلفة هو خلاف الأصل فى التشريع الإلزامى .
وإنما يسعه
تشريع الإباحة حتى يتمتع كل فريق من الناس ببقاء عاداتهم .
لكن الإباحة لما كان أصلها الدلالة على أن
المباح ليس فيه مصلحة لازمة ولا مفسدة معتبرة لزم أن يراعى ذلك فى العادات .
فمتى اشتملت
على مصلحة ضرورية أو حاجية للأمة كلها أو ظهرت فيها مفسدة معتبرة لأهلها لزم أن
يصار بتلك العادات إلى الانزواء تحت القواعد التشريعية العامة من وجوب أو تحريم .
فنحن نوقن أن عادات قوم ليست يحق لها بما
هى عادات أن يحمل عليها قوم آخرون فى التشريع ولا أن يحمل عليها أصحابها كذلك .
نعم يراعى
التشريع حمل أصحابها عليها ماداموا لم يغيروها ؛ لأن التزامهم إياها واطرادها فيهم
يجعلها منزلة منزلة الشروط بينهم يحملون عليها فى معاملتهم إذا سكتوا عما يضادها .
من معنى حمل القبيلة على عاداتها فى
التشريع إذا روعى فى تلك العادات شئ يقتضى الإيجاب أو التحريم يتضح لنا دفع حيرة و
إشكال عظيم يعرض للعلماء فى فهم كثير من نهى الشريعة عن أشياء لا تجد فيها وجه
مفسدة بحال مثل : تحريم وصل الشعر للمرأة ، وتفليج الأسنان ، والوشم ، فى حديث ابن
مسعود : إن رسول الله (صل الله عليه وسلم) : ( لعن الواصلات والمستوصلات ،
والواشمات والمستوشمات ، والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ) فإن
الفهم يكاد يضل فى هذا إذ يرى ذلك صنفا من أصناف التزين المأذون فى جنسه للمرأة
كالتحمير والخلوق والسواك فيتعجب من النهى الغليظ عنه .
ووجهه عندى الذى لم أر من أفصح عنه , أن تلك الأحوال كانت
فى العرب أمارات على ضعف حصانة المرأة .
فالنهى عنها نهى عن الباعث عليها أو عن التعرض
لهتك العرض بسببها .
عموم
الشريعة سائر البشر فى سائر العصور مما أجمع عليه المسلمون .
وقد أجمعوا
على أنها مع عمومها صالحة للناس فى كل زمان ومكان ولم يبينوا كيفية هذه الصلوحية ,
وهى عندى تحتمل أن تتصور بكيفيتين :
الكيفية
الأولى : أن هذه الشريعة قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف
الأحوال بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر .
الكيفية
الثانية : أن يكون مختلف أحوال العصور و الأمم قابلا للتشكيل على نحو
أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر كما أمكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب
والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك من غير أن يجدوا حرجا
ولا عسرا فى الإقلاع عما نزعوه من قديم أحوالهم الباطلة .
ومن دون أن
يلجأوا إلى الانسلاخ عما اعتادوه وتعارفوه من العادات .
لذا تعين أن يكون معنى صلوحية شريعة الإسلام لكل
زمان أن تكون أحكامها كليات ومعانى مشتملة على حكم ومصالح صالحة لأن تتفرع منها
أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد .
0 التعليقات:
إرسال تعليق