مقاصد الشريعة الإسلامية 27
مقاصد أحكام القضاة والشهادة
أنبأنا استقراء الشريعة من أقوالها
وتصرفاتها بأن مقصدها أن يكون للأمة ولاة يسوسون مصالحها ويقيمون العدل فيها
وينفذون أحكام الشريعة بينها ؛ لأن الشريعة ما جاءت به من تحديد كيفيات معاملات الأمة وتعيين الحقوق لأصحابها إلا وهى تريد تنفيذ أحكامها وإيصال الحقوق إلى أربابها إن
رام رائم اغتصابها منهم , وإلا لم يحصل تمام المقصود من تشريعها .
لذلك لزم إقامة علماء للشريعة لقصد
تبليغها وإقامتها .
تعين إقامة ولاة لأمورهم ولإقامة قوة
تعين أولئك الولاة على تنفيذها , فكانت الحكومة والسلطان من لوازم الشريعة ؛ لئلا
تكون فى بعض الأوقات معطلة .
إن أهم المقاصد لتهيئة إقامة الشريعة
وتنفيذها هو بث علومها وتكثير علمائها وحملتها .
لم يزل الفقهاء يضيفون إلى أحكام المرافعات
ضوابط وشروطا كثيرة ما كان السلف يراعونها .
وأحسن طرق فقهاء الإسلام فى ذلك فيما رأيت طريقة
علماء الأندلس وهى مفصلة فى كتب النوازل والتوثيق .
وأهم أركان نظام القضاء هو القاضى ؛ فإن فى
صلاحه وكماله صلاح بقية ما يحف به من الأحوال .
وقد ظهر أن مقصد الشريعة من القاضى إبلاغه
الحقوق إلى طالبيها
وذلك يعتمد أمورا : أصالة
الرأى , والعلم , والسلامة من نفوذ غيره عليه , والعدالة .
فأصالة الرأى
تستدعى العقل , والتكليف , والفطنة , وسلامة الحواس .
وفى الحديث : (لا يقضى القاضى وهو غضبان) .
لا يُستقضى من ليس بفقيه .
فى الفائق لابن راشد قال لى قاضى مصر نفيس
الدين بن شكر : تجوز تولية المتأهل لمعرفة استخراج المسائل عن مواضعها , وأيده بأن
المجتهد لا يلزمه حفظ آيات الأحكام .
قال ابن رشد : لكن لا خفاء فى أن هذا تضييق على
الخصوم ؛ لأنه يطيل عليهم فصل نوازلهم حتى يفهمها القاضى وفيه وسيلة إلى تولية
الجهال .
وكلام ابن راشد هو
الصواب ؛ لأن المجتهد غير مطلوب بفصل القضاء بين الناس .
فإذا ولى المجتهد
القضاء كان الشرط فيه أضيق من شروط مطلق مجتهد ,
وقوله : إنه وسيلة إلى تولية الجهال , وهو كذلك
؛ لأن ملكة الاستحصال لا تنضبط ولا يدرك توفرها فى صاحبها إلا العلماء .
فإذا هوى ولاة الجور
أو الجهالة تولية أحد من الجهلة القضاء زعموا أنه , وإن لم يكن عالما فهو قادر على
استخراج المسائل (وهو غير قادر) , أو لعله وإن كان قادرا لا يصرف همته إلى ذلك ,
بخلاف استحضار المسائل فالامتحان فيه لا يخفى .
أما السلامة
من نفوذ غيره عليه فهو مندرج فى اشتراطهم فى صفات القاضى الحر .
أنا أعلله بأن الرق حق على العبد , فهو
محكوم لمالكه لا يسمعه إلا مصانعته فيصير لسيد العبد أثر فى إجراء النوازل التى
يباشرها عبده .
وهذا
يومئ إلى وجوب تجرد القاضى عن كل ما من شأنه أن يجعله تحت نفوذ غيره .
قد تكلم العلماء فى عزل القاضى وترددت
أنظارهم فى ذلك بناء على اعتباره كوكيل عن الأمير من جهة , وعلى وجوب حرمة هذا
المنصب فى نظر الناس من جهة أخرى .
وهى مسألة لها مزيد
تعلق بالسلامة من نفوذ غيره عليه ؛ لأن العزل غضاضة عليه وتوقعه ينقص من صرامته إن
لم يغلبه دينه .
قال المرازى : إن علم علم القاضى وعدالته ولم
يقدح فيه قادح لم يعزل بالشكية , وسئل عن حاله بسببها سرا .
ومن لم تتحقق عدالته
, فى عزله بمجردها قولان : قال أصبع : يعزل , وقال غيره : لا يعزل .
قالوا : ولم يحفظ أن عمر عزل قاضيا , أى مع كونه
عزل الأمراء بمجرد الشكية : عزل سعد بن أبى وقاص وخالد بن الوليد وشرحبيل . قلت
ولا أن الرسول (صل الله عليه وسلم) عزل قاضيا ولا أن أبا بكر عزل قاضيا .
قال بعض المحققين من علمائنا وأظنه ابن
عرفة : فى عزل القاضى توهين لحرمة المنصب على أنه قد صار فيما بعد عصر السلف لصاحب
الخطة حق فى بقائها نظرا لضعف آراء وعدالة الأمراء الذين يولون القضاة .
عن مقصد تعيين أنواع الحقوق لأصحابها
من أن بعض الحقوق قد يجعل لأمانة غير صاحبه ،
فاعلم أن شأن الحق أن يكون تصريفه بيد صاحبه .
جعلت الشريعة المؤتمن على هذه الحقوق هو
أولى صاحبى الحق بمباشرته لكونه أدرى باستعماله مثل : حق تربية الأبناء فى الصغر
للأم , وفى اليفع للأب , وحق نظام المعاشرة الزوجية بيد الرجل ؛ لأنه أقرب إلى
العدل بدافع الحب والنصح , وحق إقامة المنزل للمرأة , وحق إدارة الأعمال لعامل
القراض , وعامل المغارسة والمساقى والمزارع .
وكل مؤتمن على حق فتصرفه فيه منوط
بالمصلحة بحسب اجتهاده المستند إلى الوسائل المعروفة فى استجلاب المصالح , فليس له
أن يكون فى تصرفه جبارا ولا مضياعا .
فإذا بدا من المؤتمن خلل فى تصرفه ليس على
سبيل الفلتة رجع النظر إلى القضاء بجعل الحق تحت يد أمين على الجانبين .
فى مقصد التعجيل
بإيصال الحقوق إلى أصحابها , وهو مقصد من السمو بمكانة , فإن الإبطاء
بإيصال الحق الى صاحبه عند تعينه بأكثر مما يستدعيه تتبع طريق ظهوره يثير مفاسد
كثيرة .
منها حرمان صاحب الحق من الانتفاع
بحقه وذلك اضرار به .
ومنها إقرار غير المستحق على
الانتفاع بشئ ليس له وهو ظالم للمحق . وقد أشار إلى هذين قوله تعالى : (لتأكلوا
فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) البقرة : 188 .
ومنها استمرار المنازعة بين المحق
والمحقوق , وفى ذلك فساد حصول الاضطراب فى الأمة . فإن كان فى الحق شبهة للخصمين
ولم يتضح لهما المحق من المحقوق ففى الإبطاء مفسدة بقاء التردد فى تعيين صاحب الحق
. وقد يمتد التنازع بينهما فى ترويج كل شبهته , وفى كلا الحالين تحصل مفسدة تعريض
الأخوة الإسلامية للوهن والانخرام .
ومنها تطرق التهمة إلى الحاكم فى تريثه بأنه
يريد إملال المحق حتى يسأم متابعة حقه فيتركه فينتفع المحقوق ببقائه على ظلمه
فتزول حرمة القضاء من نفوس الناس وزوال حرمته من النفوس مفسدة عظيمة .
كان الرسول (صل الله عليه
وسلم) يقضى بين الخصوم فى مجلس المخاصمة الواحد , ولم يكن يرجئهم إلى وقت آخر , كما قضى بين
الزبير والأنصارى فى ماء شراج الحرة .
وكما
قضى بين كعب بن مالك وعبد
الله بن أبى حدرد بالصلح بينهما بالنصف فى دين لكعب على ابن أبى حدرد .
كما قضى بين رجل ووالد عسيفه أى : أجيرة بإبطال الصلح الواقع
بينهما .
وكما جاء فى ذلك الحديث أن رسول الله (صل
الله عليه وسلم) قال لأنيس الأسلمى : (واغد يا أنيس على زوجة هذا فإن
اعترفت فارجمها) فاعترفت فرجمها , ولم يأمره أن يأتى بها إليه .
فى صحيح البخارى : أن رسول الله (صل الله
عليه وسلم) بعث أبا موسى الأشعرى إلى اليمن قاضيا وأميرا ثم أتبعه معاذ بن جبل
فلما بلغ معاذ وجد رجلا موثقا عند أبى موسى فألقى أبو موسى لمعاذ وسادة وقال له :
انزل . قال معاذ : ما هذا ؟ قال : كان يهوديا فأسلم ثم تهود .
قال معاذ : لا أجلس حتى يقتل قضاء لله تعالى
ثلاث مرات فأمر به أبو موسى فقتل .
وفى كتاب عمر بن
الخطاب إلى أبى موسى الأشعرى وهو قاض بالبصيرة :
(فاقض إذا فهمت
وأنفذ إذا قضيت) .
ليس الإسراع بالفصل بين الخصمين وحده
محمودا إذا لم يكن الفصل قاطعا لعود المنازعة ومقنعا فى ظهور كونه صوابا وعدلا .
ولذلك قال عمر : ( فاقض إذا فهمت ) .
قال عمر بن عبد العزيز : ( تحدث للناس
أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور) .
مقصد الشريعة من الشهود
الإخبار عما يبين
الحقوق وتوثيقها .
فلذلك كان المقصد منهم أن يكونوا مظنة الصدق
فيما يخبرون به بأن يكونوا متصفين بما يزعهم عن الكذب .
والوازع أمران : دينى وهو العدالة , وخلقى وهو
المروءة .
أما الوازع الخلقى فمنه ما لا يختلف وهو
ما كان منبئا بالدلائل النفسانية . ومنه ما يختلف باختلاف العادات ولا ينبغى
الاعتناء به فى علم المقاصد .
المقصد لتوثيق الحقوق المشهود بها ضبطها
وأداؤها عند الاحتياج إليه , وذلك يقتضى كتابة ما يشهد به الشهود .
تعينت مشروعية كتابة التوثقات . قال الله
تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب
بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) فهذا
أصل عظيم للتوثيق , ولذلك ابتدئ العمل به من عهد النبوة .
اتصل عمل المسلمين فى الأقطار كلها بكتابة التوثقات فى المعاملات كلها مثل
رسوم الأملاك والصدقات , وكذلك إثبات صحة رسوم التملك والتعاقد بمثل وضع الختم
والخطاب عليها إعلاما بصحتها .
المقصد من العقوبات
من أكبر مقاصد الشريعة هو حفظ نظام الأمة وليس يحفظ نظامها إلا بسد ثلمات
الهرج والفتن والاعتداء , وأن ذلك لا يكون واقعا موقعه إلا إذا تولته الشريعة
ونفذته الحكومة , وإلا لم يزدد الناس بدفع الشر إلا سرا ،
كما أشار إليه قوله تعالى : ( ومن قتل مظلوما
فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف فى القتل)
وقد
قال الله تعالى : ( وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) إلى أن قال :
(أفحكم الجاهلية يبغون) كلاما مسوقا مساق
الإنكار والتهديد على كل من يهمس بنفسه حب تلك الحالة , وإن كان سبب النزول
خاصا ومن جملة حكم الجاهلية تولى المجنى عليه الانتقام .
فمقصد الشريعة من تشريع الحدود والقصاص والتعزيز
وأروش الجنايات ثلاثة أمور : تأديب
الجانى , وإرضاء المجنى عليه , وزجر
المقتدى بالجناة .
الأول :هو التأديب :
بإقامة العقوبة على الجانى يزول من نفسه الخبث الذى بعثه على الجناية ,
والذى يظن أن عمل الجناية أرسخه فى نفسه إذ صار عمليا بعد أن كان نظريا .
ولذلك فرع الله تعالى على إقامة الحد قوله : (
فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) , وأعلى التأديب الحدود ؛
لأنها مجعولة لجنايات عظيمة .
وقد
قصدت الشريعة من التشديد فيها انزجار الناس وإزالة خبث الجانى . ولذلك متى تبين أن
الجناية كانت خطأ لم يثبت فيها الحد .
ومتى
ظهرت شبهة للجانى فقد التحقت بالخطأ فتسقط الحدود بالشبهات , ثم إذا ظهر فى الخطأ
شئ فى التفريط فى أخذ الحذر يؤدب المفرط بما يفرض من الأدب لمثله .
وأما الثانى: إرضاء المجنى عليه :
فلأن فى طبيعة النفوس الحنق على من يعتدى عليها عمدا والغضب ممن يعتدى خطأ فتندفع
إلى الانتقام , وهو انتقام لا يكون عادلا أبدا ؛ لأنه صادر عن حنق وغضب تختل معهما
الروية وينحجب بهما نور العدل .
كان من مقاصد الشريعة أن تتولى هى هذه
الترضية وتجعل حدا لإبطال الثارات القديمة .
إرضاء المجنى عليه أعظم فى نظر الشريعة من معنى تربية الجانى
, ولذلك رجح عليه حين لم يكن الجمع بينهما , وهى صورة القصاص ؛ فإن معنى إصلاح
الجانى فائت فيها ترجيحا لإرضاء المجنى عليه .
وأما الأمر الثالث : وهو زجر المقتدى
: فهو مأخوذ من قوله تعالى : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) قال ابن العربى
فى أحكام القرآن : ( إن الحد يردع المحدود ومن شهده وحضره ويتعظ به ويزدجر لأجله
ويشيع حديثه فيعتبر به من بعده ) .
كل مظهر أثر انزجارا فهو عقوبة ، ولكنه لا يجوز أن يكون زجر العموم بغير
العدل , فلذلك كان من حكمه الشريعة أن جعلت عقوبة الجانى لزجر غيره فلم تخرج عن
العدل فى ذلك