10‏/03‏/2016

ماذا حدث للمصريين ؟ 9

ماذا حدث للمصريين ؟ 9

أسياد وخدم

ليس هناك مؤشر على التقدم الإقتصادى ، فيما أظن ،أفضل من قيمة العمل الإنسانى : كلما إزداد التقدم الإقتصادى إرتفعت قيمة العمل بالمقارنة بقيمة السلع ، والعكس بالعكس.

السنوات العشر التالية ( 1985 - 1995) فنحن نعرفها جيدا بسبب قرب عهدنا بها ، بل ما زلنا نعيش فى ظلها ، إذ أدى الإنخفاض الشديد فى سعر البترول خاصة إبتداء من 1986، وتراخى معدل الهجرة إلى النفط ، مع تراخى معدلات الإستثمار بسبب إنخفاض سعر البترول من ناحية وتطبيق السياسات المعروفة باسم " سياسات التثبيت والتكيف الهيكلى" إلى حدوث إنكماش إقتصادى ملحوظ بما يعنيه بالضرورة من إرتفاع معدلات البطالة ، ومن ثم انخفاض قيمة العمل بالنسة لقيمة السلع  .

    كان أبى وأمى خلال الأربعينات وأوائل الخمسينات إذا أرادا خادما يرسلان إلى قريب لهما فى الريف فيرسل لهما ما يطلبانه فى مثل لمح البصر ، فما أكثر سكان الريف المصرى فى ذلك الوقت الذين كانوا على استعداد لإرسال أولادهم أو بناتهم للعمل فى المدينة ولو بغيرمقابل إلا سد الرمق وكساء الجسد .

والخادمة تقيم إقامة دائمة فى منزل مخدومها ، لا لساعات محدودة كما هو النظام الغالب الآن ، وخلال هذه الإقامة الدائمة يطلب منها أى شئ .

أذكر أن أبى كان يعطى الخادمة ( أو بالأحرى يعطى أباها إذا جاء لزيارتها مرة كل ستة أشهر أو كل عام ) أجرا شهريا لا يتجاوز العشرين قرشا ، فالنسبة بين أجر الخادم والمخدوم نحو من ا :500  ( واحد إلى خمسمائة ) .

عندما عدت من دراستى بالخارج فى منتصف الستينات كان الوضع قد تغير تغيرا كبيرا ، فعندما إحتجنا إلى خادمة لتساعد زوجتى فى خدمة البيت ورعاية إبنتى الصغيرة ، لم تكن الخادمة طفلة صغيرة يريد أبواها التخلص من عبء إطعامها ، بل الخادمة الآن ( فى منتصف الستينات ) إمرأة متزوجة ، يعمل زوجها فى مصنع لدبغ الجلود ، أو أخرى يعمل زوجها فى الخدمة بأحد المطاعم ، أو ثالثة متزوجة من مكوجى ....إلخ .
لم تعد القرية إذن هى المصدر الوحيد (بل ولا الأساسى) لتوريد خدم المنازل فى المدينة ، بل أصبحت المدينة نفسها قادرة على إنتاجهم ،
 وهذا يعكس أمرين على الأقل هما :
الأول ما ترتب على الإصلاح الزراعى من إرتفاع فى قدرة الأسر الريفية على إطعام أولادها.

والثانى الإرتفاع الكبير فى نسبة الطبقة العاملة فى المدينة إلى مجموع سكان المدينة نفسها .

وترتب على ذلك بدوره تغير فى نوع العلاقة من أساسها بين الخادم والمخدوم ، فقد انقضت إلى الأبد علاقة السخرة وحلت محلها علاقة أجرية : أجر محدد مقابل عمل محدد .

كان مرتبى فى الستينات عندما بدأت التدريس بالجامعة نحو أربعين جنيها فى الشهر، كنا نعطى منه نحو جنيهين للخادمة ، أى أن النسبة بين أجرالخادم وأجرالمخدوم قد إرتفعت من 1: 500 إلى ا : 20 ( واحد إلى عشرين ) ، أى تضاعفت النسبة نحو 25 مرة .

بين منتصف الستينات وأواخر السبيعنات حدث ذلك التطور المهم الذى أشرت إليه ، وقلب حالة العمالة رأسا على عقب : من وفرة إلى ما يشبه الندرة فى العمل ، وكان السبب ، كما قلت هو الهجرة على نطاق واسع إلى بلاد النفط.

كان الناس وقتها يتكلمون عن صعوبة الحصول على الأيدى العاملة فى الريف ، وكيف إرتفعت أجور العمال الزراعيين إرتفاعا مذهلا بسبب إمتصاص دول النفط لمئات الألوف منهم خاصة الذى إحتاج إليهم للحلول محل الجنود العراقيين الذين كانوا يحاربون الإيرانيين .

إن لى أخا استدعى سباكا ليقوم بعمل بسيط لا يستغرق منه أكثر من نصف ساعة ، فطلب السباك من أخى أربعين جنيها وهو مبلغ كان يمثل أكثر من عشر مرتب أخى الشهرى ، وهو مدير محترم لأحد مصانع القطاع العام ، فلما أبدى أخى إنزعاجه الشديد أجابه السباك بتعال : " لا بأس من الإنتظار ولكن عليك أن تبدأ فى الإدخار لهذا الأمر من اليوم " .

فى أواخر السبعينات عدت إلى مصر بعد سفر طويل إلى الخارج ، وأصبح مرتبى بعد عودتى أكثر مما كان عندما بدأت العمل فى الجامعة فى منتصف الستينات بنحو 15مرة ، ومع ذلك فإنى وجدت إذا إحتجنا لخادمة جديدة على أن أدفع لها الآن ( أى فى أواخر السبعينات ) نسبة أكبر مما كنت أدفع فى الستينات . ( فقد إرتفعت هذه النسبة من نحو
1 : 20 فى 1965 إلى نحو ا : 15 فى 1975 ) .

ولكن حتى هذا لم يدم طويلا ، فمنذ منتصف الثمانينات بدأت النكسة الإقتصادية وأصبح ما كان يبدو ممكنا وسهلا ، أكثر صعوبة بكثير .

        أفظع ما فى الأمر أننى بين حين وآخر، أصادف بعض الظواهر التى أصبحت تعيد إلى ذكرى الأربعينات ومطلع الخمسينات . ليس أسوأ هذه الظواهر عودة المتسوليين بكثرة فى الشوارع ، والتضاعف السريع فى عدد من يبيعون على قارعة الطريق كميات تافهة من سلعة أكثر تفاهة ، وهم شباب قويو البنية  رغم ما يبدو عليهم من مظاهر سوء التغذية .

الأسوأ من هذا ما يبدو من عودة الإنقسام الحديدى بين طبقات المجتمع ، وإنتشار روح اليأس من إمكانية العبور من طبقة لأخرى ، والمذلة التى أصبحت تطبع سلوك عدد متزايد من أفراد الطبقة الدنيا إزاء الطبقات العليا .


كان كل من يبدو عليه أى درجة من درجات اليسر فى الأربعينات يخاطبه أفراد الطبقة الدنيا بلقب ( بيه ) ، ونادرا ما يكون الرجل كذلك فى الحقيقة ، وإنما كان اللقب مجرد طريقة لتمييز طبقة إجتماعية عن أخرى . 

0 التعليقات: