ماذا حدث للمصريين ؟ 9
أسياد وخدم
ليس هناك مؤشر على
التقدم الإقتصادى ، فيما أظن ،أفضل من قيمة العمل الإنسانى : كلما إزداد التقدم
الإقتصادى إرتفعت قيمة العمل بالمقارنة بقيمة السلع ، والعكس بالعكس.
السنوات العشر
التالية ( 1985 - 1995) فنحن نعرفها جيدا بسبب قرب عهدنا بها ، بل ما زلنا نعيش فى
ظلها ، إذ أدى الإنخفاض الشديد فى سعر البترول خاصة إبتداء من 1986، وتراخى معدل
الهجرة إلى النفط ، مع تراخى معدلات الإستثمار بسبب إنخفاض سعر البترول من ناحية
وتطبيق السياسات المعروفة باسم " سياسات التثبيت والتكيف الهيكلى" إلى
حدوث إنكماش إقتصادى ملحوظ بما يعنيه بالضرورة من إرتفاع معدلات البطالة ، ومن ثم
انخفاض قيمة العمل بالنسة لقيمة السلع .
كان أبى وأمى خلال الأربعينات وأوائل
الخمسينات إذا أرادا خادما يرسلان إلى قريب لهما فى الريف فيرسل لهما ما يطلبانه
فى مثل لمح البصر ، فما أكثر سكان الريف المصرى فى ذلك الوقت الذين كانوا على
استعداد لإرسال أولادهم أو بناتهم للعمل فى المدينة ولو بغيرمقابل إلا سد الرمق
وكساء الجسد .
والخادمة تقيم إقامة
دائمة فى منزل مخدومها ، لا لساعات محدودة كما هو النظام الغالب الآن ، وخلال هذه
الإقامة الدائمة يطلب منها أى شئ .
أذكر أن أبى كان يعطى
الخادمة ( أو بالأحرى يعطى أباها إذا جاء لزيارتها مرة كل ستة أشهر أو كل عام ) أجرا
شهريا لا يتجاوز العشرين قرشا ، فالنسبة بين أجر الخادم والمخدوم نحو من ا :500 ( واحد إلى خمسمائة ) .
عندما عدت من دراستى
بالخارج فى منتصف الستينات كان الوضع قد تغير تغيرا كبيرا ، فعندما إحتجنا إلى
خادمة لتساعد زوجتى فى خدمة البيت ورعاية إبنتى الصغيرة ، لم تكن الخادمة طفلة
صغيرة يريد أبواها التخلص من عبء إطعامها ، بل الخادمة الآن ( فى منتصف الستينات )
إمرأة متزوجة ، يعمل زوجها فى مصنع لدبغ الجلود ، أو أخرى يعمل زوجها فى الخدمة
بأحد المطاعم ، أو ثالثة متزوجة من مكوجى ....إلخ .
لم تعد القرية إذن هى
المصدر الوحيد (بل ولا الأساسى) لتوريد خدم المنازل فى المدينة ، بل أصبحت المدينة
نفسها قادرة على إنتاجهم ،
وهذا يعكس أمرين على الأقل هما :
الأول ما ترتب على
الإصلاح الزراعى من إرتفاع فى قدرة الأسر الريفية على إطعام أولادها.
والثانى الإرتفاع
الكبير فى نسبة الطبقة العاملة فى المدينة إلى مجموع سكان المدينة نفسها .
وترتب على ذلك بدوره
تغير فى نوع العلاقة من أساسها بين الخادم والمخدوم ، فقد انقضت إلى الأبد علاقة
السخرة وحلت محلها علاقة أجرية : أجر محدد مقابل عمل محدد .
كان مرتبى فى
الستينات عندما بدأت التدريس بالجامعة نحو أربعين جنيها فى الشهر، كنا نعطى منه
نحو جنيهين للخادمة ، أى أن النسبة بين أجرالخادم وأجرالمخدوم قد إرتفعت من 1: 500
إلى ا : 20 ( واحد إلى عشرين ) ، أى تضاعفت النسبة نحو 25 مرة .
بين منتصف الستينات
وأواخر السبيعنات حدث ذلك التطور المهم الذى أشرت إليه ، وقلب حالة العمالة رأسا
على عقب : من وفرة إلى ما يشبه الندرة فى العمل ، وكان السبب ، كما قلت هو الهجرة
على نطاق واسع إلى بلاد النفط.
كان الناس وقتها
يتكلمون عن صعوبة الحصول على الأيدى العاملة فى الريف ، وكيف إرتفعت أجور العمال
الزراعيين إرتفاعا مذهلا بسبب إمتصاص دول النفط لمئات الألوف منهم خاصة الذى إحتاج
إليهم للحلول محل الجنود العراقيين الذين كانوا يحاربون الإيرانيين .
إن لى أخا استدعى
سباكا ليقوم بعمل بسيط لا يستغرق منه أكثر من نصف ساعة ، فطلب السباك من أخى
أربعين جنيها وهو مبلغ كان يمثل أكثر من عشر مرتب أخى الشهرى ، وهو مدير محترم
لأحد مصانع القطاع العام ، فلما أبدى أخى إنزعاجه الشديد أجابه السباك بتعال :
" لا بأس من الإنتظار ولكن عليك أن تبدأ فى الإدخار لهذا الأمر من اليوم
" .
فى أواخر السبعينات
عدت إلى مصر بعد سفر طويل إلى الخارج ، وأصبح مرتبى بعد عودتى أكثر مما كان عندما
بدأت العمل فى الجامعة فى منتصف الستينات بنحو 15مرة ، ومع ذلك فإنى وجدت إذا
إحتجنا لخادمة جديدة على أن أدفع لها الآن ( أى فى أواخر السبعينات ) نسبة أكبر
مما كنت أدفع فى الستينات . ( فقد إرتفعت هذه النسبة من نحو
1 : 20 فى 1965 إلى
نحو ا : 15 فى 1975 ) .
ولكن حتى هذا لم يدم
طويلا ، فمنذ منتصف الثمانينات بدأت النكسة الإقتصادية وأصبح ما كان يبدو ممكنا
وسهلا ، أكثر صعوبة بكثير .
أفظع ما فى الأمر أننى بين حين وآخر،
أصادف بعض الظواهر التى أصبحت تعيد إلى ذكرى الأربعينات ومطلع الخمسينات . ليس
أسوأ هذه الظواهر عودة المتسوليين بكثرة فى الشوارع ، والتضاعف السريع فى عدد من
يبيعون على قارعة الطريق كميات تافهة من سلعة أكثر تفاهة ، وهم شباب قويو البنية رغم ما يبدو عليهم من مظاهر سوء التغذية .
الأسوأ من هذا ما
يبدو من عودة الإنقسام الحديدى بين طبقات المجتمع ، وإنتشار روح اليأس من إمكانية
العبور من طبقة لأخرى ، والمذلة التى أصبحت تطبع سلوك عدد متزايد من أفراد الطبقة
الدنيا إزاء الطبقات العليا .
كان كل من يبدو عليه
أى درجة من درجات اليسر فى الأربعينات يخاطبه أفراد الطبقة الدنيا بلقب ( بيه ) ،
ونادرا ما يكون الرجل كذلك فى الحقيقة ، وإنما كان اللقب مجرد طريقة لتمييز طبقة
إجتماعية عن أخرى .
0 التعليقات:
إرسال تعليق