10‏/03‏/2016

ماذا حدث للمصريين ؟ 8

ماذا حدث للمصريين ؟ 8


التغريب

إن من أسوأ ما تشترك فيه السنوات الأربعون التالية لثورة 1952  يتمثل فى تصورى فى عجز القيادات السياسية الفكرية للنظام الجديد عن تقديم مشروع حضارى مستقل لتحقيق النهضة فى مصر .

إن هذه الدعوة إلى الإستقلال بقيت محصورة فى الميدانين السياسى والإقتصادى وحدهما ، ولم تتسع لتشمل محاولة تقديم مفهوم مستقل للنهضة ، بل على العكس تماما من ذلك لقد أصاب هذه المحاولة الإنتكاس على يد ثورة يوليو .

فقبل 1952 كان دعاة الإصلاح فى مصر يفهمون الإصلاح مفهوما واسعا يشمل مختلف نواحى الحياة الإجتماعية والثقافية والخلقية .

          جاءت الثورة فحسمت الأمر لصالح التغريب .

إنها لم تذهب بالطبع إلى المدى البعيد الذى ذهبت إليه ثورة أتاتورك فى تركيا ، كما أنها بالطبع لم تحسم الأمر على المستوى الفكرى ، ولكنها حسمته على المستوى العملى بإلقاء كل ثقلها إلى جانب التغريب .

لم يكن عبد الناصر إذن مهما بلغت درجة طموحه ، طموحا لدرجة أن يتصور أن العرب يمكن أن يقدموا للإنسانية نموذجا مختلفا للنهضة ، كان هدفه هو المساواة مع الغرب وليس التميز عنه

فمع إهتمامه الكبير مثلا ببناء المدارس ونشر التعليم لم تثر فى ذهنه تساؤلات كثيرة عن مضمون التعليم الذى يتلقاه التلاميذ فى المدارس لا من حيث كفاءته ، ولا من حيث صلته بالتراث والتقاليد ونوع القيم التى يغرسها فى أذهانهم .

       كان من المهم لدى حكومة الثورة بناء مصانع جديدة ، لكن لم يطرح تساؤل جدى حول جدوي إنتاج السيارات الخاصة وأجهزة التكييف ، سواء فى الحال أو فى المستقبل ، بل لم يثر تساؤل جدى حتى حول إختيار التكنولوجيا الملائمة فى الصناعة الجديدة ومدى قدرتها على استيعاب الأيدى العاملة .

     كان من المهم محو الأمية ( رغم عجز الثورة حتى عن إحراز نجاح كاف فى هذا الصدد ) لكن لم يكن من المهم المحافظة على قواعد اللغة العربية من خطر الإهمال أو الإبتذال .

كان من المهم تمصير المدارس الأجنبية وإخضاعها لإشراف حكومة الثورة ، ولكن لم يكن من المهم بعد ذلك النهوض بمستوى تدريس اللغة العربية أو الدين أو التراث العربى ، فالطلب هو التنمية وليس الإبداع ، المطلوب هو التخلص من السيطرة وليس محاولة إعادة إكتشاف الذات .

ولعل أوضح مثال على ذلك ما فعله عبد الناصر بمؤسسة كالأزهر .

      فمهما قيل عما أصاب الأزهر من ركود لقرون طويلة ، وتخلفه عن ملاحقة متطلبات العصر ، كان الأزهر يحمل دائما وما يزال ، إمكانيات كبيرة لإبتداع نمط من التعليم يختلف إختلافا جذريا عن النمط الغربى ، ليس فقط من حيث طريقة التعليم ، ولكن من حيث المضمون ، ومدى إتصاله بالتراث .

وهكذا نلاحظ الظاهرة التى قد تبدو غريبة لأول وهلة ، وهى أن الإرستقراطية المصرية قبل 1952 وإن كانت طبقة ممعنة فى استغرابها ، وتنقل من الغرب أدق تفاصيل حياته ، فإنها كانت أيضا فى بعض الميادين أحرص على التمسك بالتقاليد من الطبقات الجديدة التى فتحت لها ثورة يوليو الأبواب على مصراعيها .

فهى بسبب إتصالها الوثيق بالغرب كانت تعى أكثر من غيرها بعض حماقات النمط الغربى فى الحياة وسخافاته ، كما أنها تدرك أكثرمن غيرها أن التمسك  بالتقاليد لا يعنى فى كل حال من الأحوال تخلفا أو بدائية .


فحركة التغريب فى مصر قديمة ومتصلة الحلقات منذ الحملة الفرنسية ، وليست ما فعلته ثورة يوليو فى هذا الصدد أكثر من إضافة حلقة جديدة إلى سلسة طويلة .

0 التعليقات: