ماذا حدث للمصريين ؟ 18
مصر وحضارة السوق
كتب الأستاذ كارل
بولانى " Karl
Polanyi " كتابا عنوانه ( الإنقلاب الكبير ) ، " The
Great Transformation "
وهو ظهور نظام السوق ، ويقصد ظاهرة أخطر وأعمق ،
وهى بداية شمول عملية البيع والشراء ، بما فى ذلك الأرض والعمل الإنسانى .
هذه الخصيصة : جميع الأشياء
تصبح شيئا فشيئا قابلة للتسعير وقابلة للبيع فى مقابل كمية من النقود ، وأن هذه
الخصيصة أهم بكثير من الفرق بين الرأسمالية والإشتراكية .
وكل ما كان يستعصى على البيع والشراء تحول إلى سلعة أو خدمة ذات ثمن معلوم ،
وحتى الأشياء التى كان لها ثمن فى الماضى ، ولكنك متى دفعت الثمن استطعت الحصول
منها على أى كمية تشاء ، وقد أصبح لها " عداد " بحيث تزيد تكلفتها كلما إزداد استهلاكك منها كخدمة
الإتصال التليفونى مثلا .
كان الحل العبقرى الذى تفتق عنه ذهن المنتجين والبائعين الباحثين عن أقصى
ربح هو إكتشاف طريقة لكى تحل محل هذه الحاجة الطبيعية لدى الإنسان التى يمكن إشباعها مجانا أو بتكلفة
زهيدة ، حاجة جديدة أخرى لا تتمتع وسائل إشباعها بنفس الدرجة من الوفرة .
أحد الأمثلة الصارخة لذلك ما حدث من تحويل الحاجة لمياه الشرب إلى حاجة
للمشروبات الغازية ، بحيث يكاد يستقر فى الذهن أن هذه المشروبات الغازية هى طريقة
رى الظمأ ، فيتذكرها المرء بمجرد الشعور بالعطش بدلا من أن يتذكر الماء الطبيعى ،
وهى بالطبع أقل ندرة من الماء الطبيعى ، ومن ثم أكثر ربحا .
واختراع نظام " الموضة
" حيث يتم عن طريقها إقناع المستهلك ،باحتياجه لملابس وأشياء جديدة تتبع
الموضة وتتغير الموضة فى الموسم التالى.
كان من بين نعم الله على منتجى السلع وموزعيها ، المناسبات والمواسم
المختلفة كالأعياد القومية أو أعياد الميلاد ، أو حلول عام جديد ، والمناسبات
الدينية أو مواسم العطلة أو دخول المدارس ....إلخ
فاخترع المنتجون والموزعون عيد الأم ، وكأن الأم يمكن أن يتذكرها المرء فى
يوم معين .
واخترعوا يوما للحب سموه يوم " فالنتين " .
والراجح أن هذا الأمر لن ينتهى حتى تتحول أيامنا كلها إلى أعياد .
إن الكريسماس الذى بدأ كمناسبة دينية وعائلية محضة ، وهو يزيد طولا عاما
بعد عام .
فأصبحت المحلات فى أوربا وأمريكا تبدأ فى الإعلان عنه قبل موعده بشهرين أو
أكثر .
ترتب على هذا الإنتشار السرطانى لنظام السوق ، ان أصبح فن "التسويق " من أكثر الأنشطة
الإقتصادية رواجا وإدرارا للربح ، بل وأصبح علما يدرس ، وكمية لا يستهان بها من المواهب .
فأصبح الرسام أو الموسيقى أو المغنى أو الممثل لا يجد عملا أكثر ربحية من
عمله فى خدمة التسويق .
فمع الإرتفاع المفاجئ فى
الأسعار فى أعقاب ثورة النفط فى 73 -1974 ، ومع سحب الدولة يدها بالتدريج من
التدخل لحماية ذوى الدخل المحدود ، ومع تدفق كميات غير معهودة من الأموال على مصر
بسبب الهجرة إلى بلاد النفط ، إرتفعت حرارة نظام التسوق ، واشتدت قوة الدافع إلى
تحقيق الثراء .
وأذا بكثير من الممتلكات العامة يتحول إلى ممتلكات خاصة ، ومن ثم تجرى عليها
عمليات البيع والشراء ، وما كان يتمتع به الجميع بلا مقابل كالحدائق العامة
أوشواطئ البحر أو النيل ، يتحول كثير منه إلى أراض للبناء ، إما بغرض الربح ، أو
لقصرالإنتفاع بهذه الأراضى أو الشواطئ على فئة معينة من الناس دون غيرها .
وأقبلت النوادى الرياضية على التنازل عن جزء بعد آخرمن أراضيها ومبانيها
التى كانت متاحة لاستخدام الأعضاء بلا مقابل للترفيه أو التريض ، لتتحول إلى مشروعات
تجارية لا تستهدف إلا الربح ناهيك بالطبع عن جهاز التليفزيون ، إذ إن فرص الربح
هنا لا حدود لها .
فإذا بهذا الجهاز الإعلامى بالدرجة الأولى قد تحول إلى جهاز إعلانى من
الطراز الأول ، تتحكم الإعلانات ليس فقط فى توقيت إذاعة البرامج ، بل وفى مضمون
هذه البرامج نفسها .
شهر رمضان ، هذا الشهر أيضا قد جرى عليه حكم نظام السوق ، وكاد فانوس رمضان
أن يحتل مركزا مماثلا للمركز الذى تحتله الآن فى الغرب شجرة الكريسماس التى تحولت
إلى رمز وشعار لا يمكن أن يكتمل الإحتفال
بالكريسماس بدونه .
هكذا يتحول فانوس رمضان الآن
شيئا فشيئا إلى أن يصبح رمزا وشعارا لشهر
رمضان ، وقريبا يصبح الفانوس ركنا من الأركان
التى لا يقبل الصوم بدونها ، مثلما حدث بالتدريج لفوازير رمضان التى أصبحت بدورها سمة ثابتة من
سمات هذا الشهر .
هكذا ترى أن زحف نظام السوق قد أخذ
يطبع حياتنا الدينية بطابع وثنى .
إن نفس الجريمة التى إرتكبها هذا النظام ضد المسيحية يرتكبها الآن ضد
الإسلام .
انتهي بحمد الله تلخيص الكتاب
0 التعليقات:
إرسال تعليق