غياث الأمم في التياث الظلم 25
فالقول الوجيزُ في ذلك:
أن المفتي هو المتمكنُ من
دَرْكِ أحكامِ الوقائع على يسر من غير معاناة تعلم،
وهذه الصفة تستدعي ثلاثةَ
أصناف من العلوم:
581 ـ أحدها: اللغة والعربية،
ولا يُشترط التعمُّقُ والتبحُّر فيها حتى يصيرَ الرجلُ علامةَ العرب، ولا يقعُ
الاكتفاءُ بالاستطرافِ وتحصيلِ المبادئ والأطراف، بل القولُ الضابط في ذلك أن
يحصّلَ من اللغةِ والعربيةِ، ما يترقى به عن رتبةِ المقلِّدين في معرفة معنى
الكتاب والسنة، وهذا يستدعي منصباً وسطاً في علم اللغة و العربية.
582 ـ والصنف الثاني من
العلوم: الفنُّ المترجمُ بالفقه، ولا بدَّ من التبحُّر فيه، والاحتواءِ على
قواعده، ومآخذِه ومعانيه.
ثم هذا الفن يشتمل على ما
تَمَسُّ الحاجةُ إليه من نقل مذاهب الماضين وينطوي على ذكر وجوه الاستدلال بالنصوص
والظواهر من الكتاب، ويحتوي على الأخبار المتعلقة بأحكام بالتكاليف مع الاعتناءِ
بذكر الرواة والصفات المعتبرة في الجرح والتعديل. فإن اقتضت الحالة مزيدَ نظرٍ في
خبرٍ، فالكتبُ الحاويةُ على ذكر الصحيح والسقيم عتيدةٌ، ومراجعتها مع الارتواءِ من
العربية يسيرةٌ غيرُ عسيرة، وأهمُّ المطالب في الفقه التدرُّب في مآخذ الظنون في
مجال الأحكام، وهذا هو الذي يسمى فقه النفس. وهو أنفس صفات علماءِ الشريعة.
583 ـ والصنف الثالث من
العلوم ـ العلم المشهور بأُصول الفقه؛ ومنه يستبان مراتبُ الأدلة، وما يُقَدَّمُ
منها وما يؤخر، ولا يَرقى المرءُ إلى منصب الاستقلال. دون الإحاطة بهذا الفن.
فمن اسجتمع هذه الفنونَ، فقد
علا إلى رتبة المفتين.
584 ـ والورع ليس شرطاً في
حصولِ منصبِ الاجتهاد؛ فإن من رسخ في العلوم المعتبرة، فاجتهاده يلزمُه في نفسِه
أن يَقْتَفِيَ فيما يخصه من الأحكام موجَبَ النَّظَرِ. ولكن الغيرَ لا يثق بقوله
لفسقه.
585 ـ والدليل على وجوب
الاكتفاءِ بما ذكرناه من الخصال شيئان:
أحدهما: أن اشتراط المصيرِ
إلى مبلغٍ لا يحتاج معه إلى طلبٍ وتفكر في الوقائع محالٌ؛ إذ الوقائع لا نهايةَ
لها، والقوى البشريةُ لا تفي بتحصيل كل ما يتوقع، سيما مع قصر الأعمار؛ فيكفي الاقتدارُ على الوصول إلى الغرض على يسيرٍ من غير احتياجٍ إلى
معاناة تعلُّمٍ.
وهذا الذي ذكرناه يقتضي
استعدادا واستمدادا من العلوم التي ذكرناها لا محالة.
586 ـ والثاني: أنا سبرنا أحوال المفتين من صحب رسول الله صل الله عليه وسلم الأكرمين، فألفيناهم
مُقتدرين على الوصول إلى مداركِ الأحكام، ومسالك الحلال والحرام، ولكنهم كانوا
مستقلّين بالعربية؛ فإن الكتاب نزل بلسانهم، وما كان يخفى عليهم من فحوى خطاب
الكتاب والسنة خافيةٌ، وقد عاصروا صاحبَ الشريعة وعلموا أن معظمَ أفعاله وأقوالِه
مناطُ الشرع، واعتَنَوْا على اهتمامٍ صادقٍ بمراجعته صل
الله عليه وسلم فيما كان يَسْنَحُ
لهم من المشكلات، فَنُزِّلَ ذلك منهم منزلةَ تدرُّب الفقيه منَّا في مسالك
الفقه.
587 ـ وأما الفنُّ المترجمُ
بأصول الفقه، فحاصله نظمُ ما وجدنا من سِيَرِهم، وضمُّ ما بلغنا من خبرهم، وجمعُ
ما انتهى إلينا من نظرهم، وتتبُّعُ ما سمعنا من عِبَرِهم، ولو كانوا عكسوا
الترتيبَ لاتّبعناهم.
نعم. كان يعتني الكثيرُ منهم
بجمع ما بلغ الكافةَ من أخبار رسول الله صل الله عليه
وسلم، بل كانت الواقعةُ تقع، فيُبحث عن كتاب الله، فكان معظمُ الصحابةِ لا
يستقلُّ بحفظ القرآن، ثم كانوا يبحثون عن الأخبار فإن لم يجدوها اعتبروا، ونظروا
وقاسوا.
588 ـ فاتضح أن المفتي منهم
كان مستعدا لإمكان الطلب عارفاً بمسالك النظر، مقتدراً على مأخذ الحكم مهما عنَّت
واقعة.
589 ـ فقد تحقق لمن أنصف أن
ما ذكرناه في صفات المفتين هو المقطوع به الذي لا مزيد عليه.
592 ـ ولا يتم المقصدُ في هذا
الفصل، ما لم أمهد في أحكام الفتوى قاعدةً يتعين الاعتناءُ بفهمها والاهتمامُ
بعلمها. وهو أن المستفتي يتعين عليه ضربٌ من النظر في تعيين المفتى الذي يقلدهُ
ويعتمدُهُ، وليس له أن يراجع في مسائلة كلَّ متلقِّب بالعلم.
596 ـ والذي أراه أن من ظهر
ورعُه من العلماءِ وبعُد عن مظانِّ التُّهم، فيجوز للمستفتين اعتمادُ فتواه إذا
ذكر أنه من أهل الفتوى؛ فإنا نعلم أن الغريب كان يردُ ويسألُ من يراه من علماءِ
الصحابة، وكان ذلك مُشتهِراً مستفيضاً من دأب الوافدين والواردين، ولم يَبْدُ
نكيرٌ من جِلَّةِ الصحابة وكبرائهم.
فإذا كان الغرضُ حصولَ غلبةِ
ظنِّ المستفتي، فهي تحصلُ باعتماد قول من ظهر ورعُه، كما تحصل باستفاضةِ الأخبار
عنه. وليس للمستفتي سبيلٌ إلى الإحاطة بحقيقةِ رتبة المفتي مع عُرُوِّه عن مواد
العلوم، سيّما إذا فرض القول في غبيٍّ عريٍّ عن مبادئ العلوم والاستئناس بأطرافها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق