غياث الأمم في التياث الظلم 17
الركن الثاني
القول في خلو الزمان عن الإمام
مضمون هذا الفن يحويه ثلاثة أبواب:
أحدها: في تصوُّر انخرام الصفات المرعية جُمْلَةً وتفصيلاً.
والثاني: في استيلاء مُسْتَوْلٍ مستظهر بطول وشوكة وصول.
والثالث: في شغور الدَّهر جُمْلَةً عن والٍ بنفسه، أو متولٍّ بتوليه
غيره.
الباب الأول
في انخرام الصفات المعتبرة في الأئمة
فلو لم نجد قرشياً يستقل بأعبائها،
ولم نعدَم شخصاً يستجمع بقيةَ الصفات، نصَبْنا من وجدناه عالماً كافياً ورعاً،
وكان إماماَ مُنَفِّذَ الأحكام على الخاص والعام؛ فإن النسب ثبت اشتراطه تشريفاً لشجرة
رسول الله صل الله عليه وسلم؛ إذ لا يتوقفُ شيء من مقاصد الإمامة على الاعتزاء إلى
نسب، والانتماء إلى حسب. ونحن نعلم قطعاً أن الإمام زمامُ الأيام، وشوفُ الأنام،
والغرضُ من نصبه انتظام أحكام المسلمين والإسلام؛ ويستحيل أن يُترك الخلقُ سدى لا
رابط لهم، ويُخَلَّوْا فوضى لا ضابط لهم، فيغتلم من الفتن بحرُها المواج، ويثور
لها كلُّ ناجمٍ مهتاج. ونحن في ذلك نرقُبُ قرشيا، والخلق يتهاوَوْن في مهاوي
المهالك، ويلتطمون في الخِطط والممالك.
فإذاً
عدمُ النسب لا يمنع نصبَ كافٍ، ثم ينفُذ من أحكامه ما ينفذ من أَحكام القرشي
فأما القول في فَقْد رتبة الاجتهاد، فقد مضى أن
استجماعَ صفات المجتهدين شرطُ الإمامة، فلو لم نجد من يتصدى للإمامة في الدين،
ولكن صادفنا شهما ذا نجدة وكفاية واستقلال بعظائم الأمور، على ما تقدم وصفُ
الكفاية، فيتعينُ نصبه في أمور الدين والدنيا، وتنفذ أحكامُه كما تنفذُ
أحكام الإمامِ الموصوفِ بخلال الكمال المرعيِّ في منصبِ الإمامة. وأئمة الدين وراءَ إرشادِه وتسديدِه وتبينِ ما
يُشْكِل في الواقعة من أحكام الشرع. والعلمُ وإن كان شرطُه في منصب الإمامة معقولاً، ولكن إذا لم نجد عالماً فجمعُ الناس
على كافٍ يَسْتَفْتي فيما يسنَح ويَعِنُّ له من المشكلات أولى من تركهم سُدًى،
متهاوين على الورطات، متعرِّضين للتَّغالُب والتواثُب، وضروب الآفات
فإن لم نجد كافيا ورعا
متَّقياً، ووجدنا ذا كفايةٍ يميل إلى المجون وفنون الفسق، فإن كان في انهماكه
وانتهاكه الحرمات، واجترائه على المنكرات، بحيث لا يؤمن غائلتُه وعاديتُه، فلا
سبيلَ إلى نصبِه، فإنه لو استظهر بالعتاد وتقوَّى بالاستعداد، لزاد ضَيْرُه على
خَيْرِه، ولصارت الأُهَبُ والعُدَدُ العتيدةُ للدفاع عن بيضةِ الإسلام ذرائعَ
للفساد ووصائلَ إلى الحَيْد من مسالكِ الرشاد، وهذا نقيضُ الغرض المقصود بنصب
الأئمة.
ومن
تأمل ما ذكرناه فَهِم منه أن الصفاتِ المشروطةَ في الإمام على ما تقدم وصفُها، وإن
كانت مرعيَّةً، فالغرضُ الأظهر منها: الكفايةُ، والاستقلالُ بالأمر. فهذه الخصلةُ
هي الأصلُ، ولكنها لا تنفعُ ولا تنجعُ مع الانهماك في الفسق، والانسلالِ عن ربقة
التقوى، وقد تصير مَجْلَبَةً للفساد إذا اتصل بها استعداد.
ثم
العلمُ يلي الكفايةَ والتقوى، فإنه العُدَّةُ الكبرى والعروةُ الوثقى، وبه يستقلُّ
الإمام بإمضاء أحكام الإسلام
والآن
تتهذبُ أغراضُ الباب بمسائل نفرضُها مستعينين بالله تعالى
فإن قيل: ما قولكم
في قرشيّ ليس بذي دراية، ولا بذي كفاية إذا عاصره عالمٌ كافٍ تقيٌّ، فمن أولى
بالأمر منهما؟
قلنا: لا نقدم
إلاَّ الكافيَ التقيَّ العالمَ، ومن لا كفاية فيه، فلا احتفالَ به، ولا اعتدادَ
بمكانه أصلاً.
فالاستقلال
بالنجدة والشهامة من غير اجتهاد، أولى بالاعتبار والاختيار من العلم من غير نجدةٍ
وكفاية، وكأن المقصودَ الأوضحَ الكفايةُ، وما عداها في حكم الاستكمال والتتمة لها.
وإذا عدمنا
كافياً، فقد فَقَدْنا من نؤثِر نصبَه والياً، ويتحققُ عند ذلك شغورُ الزمان عن
الولاة، على ما سيأتي ذلك أن شاء الله عزَّ وجل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق