07‏/09‏/2014

غياث الأمم في التياث الظلم 22

غياث الأمم في التياث الظلم 22

]واجبات الإمام[
] يقدمها لنظام الملك [
532 ـ وأنا أذكر الآن ما عل صدرِ الزمان من أحكام  الملك الديان، بعد أن أوضّح ما إليه من مقاليد أمورِ أهل الإيمان، فأقول:
533 ـ كل ما يناط بالأئمة مما مضى موضَّحاً محصَّلاً، مجملا ومفصلا، فهو موكولٌ إلى رأي صدرِ الدين، فإن الأئمة إنما تَوَلَّوْا أمورَهم، ليكونوا ذرائعَ إلى إقامة أحكام الشرائع، فإذا فقدنا من يستجمع الصفاتِ المرعية في المنصبِ الأعلى، ووجدنا من يستقِلُّ بأمورِ المسلمين وينهضُ بأثقال العالمين، ويحمل أعباءَ الدين، ولو توانى فيها لانحلَّت من الإسلام شكائمُه، ولمالت دعائمُه. والغرضُ استصلاح أهل الإيمان على أقصى ما يُفرض فيه الإمكان. ولو بَغَت فئةٌ على الإمامِ المستجمعِ لخلال الإمامة، وتولَّوْا بعُدَّةٍ وعتادٍ، واستولَوْا على أقطارٍ وبلاد، واستظهروا بشوكةٍ واستعداد، واستقلُّوا بنصب قضاةٍ وولاةٍ، على انفرادٍ واستبداد، فينفذُ من قضاءِ قاضيهم ما ينفذُ من قضاءِ قضاة الإمام القائمِ بأمور الإسلام.

534 ـ والسببُ فيه أنه انقطع عن قُطْرِ البغاة من الإمام نظرُه؛ إلى أن يتَّفِقَ استيلاؤُه وظفرُه، فلو رَدَدْنا أقضيتَهم، لتعطَّلت أمورُ المسلمين، وبطلت قواعدُ من الدين.

535 ـ فإذا كان ينفُذ قضاءُ البغاة مع قيام الإمام، فلأَنْ ينفذُ أحكامُ وزراءِ الإسلام مع شغور الأيام أولى.
فهذا بيان ما إليه.    
536 ـ فأما إيضاح ما عليه ، فأقول:
قد تقدّم ما إلى الأئمة من الأحكام، ووضحَ أن جميعَها منوطٌ برأي صَدْر الأيامِ وسيدِ الأيام، فيأخذ ما عليه مما إليه فعليه بذلُ المجهود في إقامة ما إليه، وهذا على إيجازه مشيرٌ إلى النهايات مشعرٌ بالغايات. ولكني أعرض على الرأي الأسمى كلَّ أمرٍ تمَسُّ إليه الحاجة، وأوضِّح مسلكه ومنهاجه، وأنتدب في بعض مجاري الكلام محرِّراً مُقَدِّراً، وأُشيرُ إلى المغزى والمرام مذكِّراً، وقد قال الله لسيد الأنبياء الأكرمين: ]وذكر فإن الذكى تنفع المؤمنين[.   
نعم. والتذكيرُ ينزِع صمامَ الصَّمَم عن صماخ اللُّب، ويقشعُ غمام الغَنَم عن سماء القلب.
]واجبات "نظام الملك" وما عليه[
فأقول:
537 ـ [1] حقوقُ الله تعالى على عبيده على قدر النعم، والهمومُ بقدر الهِمم، وأنعُم الله إذا لم تشكر نِقم، والموفَّقُ من تَنَبَّه لما له وعليه قبل أن تزلَّ به القدم، وحظوظُ الدنيا خَضراءُ الدِّمَن، لا تَبقى على مَكَرِّ الزمن. والمسدَّد من نظر في أولاه لعاقبته، وتزوَّد من مُكْنَته في دنياه لآخرته.    
]أ ـ الإحاطة بالأخبار والأحوال[
538 ـ فمما أعرضُه على الجِنابِ العالي أمرٌ يعْظُم وقعُه على اعتقاب الأيام والليالي، وهو الاهتمامُ بمجاري الأخبار في أقاصي الديار؛ فإنَّ النَّظر في أمور الرعايا، يترتب على الاطلاع على الغوامض والخفايا، وإذا انتشرت من خِطة المملكة الأطرافُ وأسبَلَت العَمَايةُ دون معرفتِها أسدادَ الأعراف، ولم تطلُع شمسُ رأيِ راعي الرعية على صفة الإشراق والإشراف، امتدت أيدي الظَّلَمة إلى الضَّعَفة بالإهلاك والإتلاف، والثَّلَّةُ إذا نام عنها راعيها، عاثت طُلْسُ الذئابِ فيها، وعسُرَ تداركُها وتلافيها، والتيقُّظُ والخِبرةُ أسُّ الإيالة، وقاعدةُ الإمرة، وإذا عمَّى المعتدون أخبارَهم، أنشبوا في المستضعفين أظفارهم، واستجرؤوا ثَمَّ على الاعتداء، ثم طَمَسوا عن مالكِ الأمرِ آثارَهم، ويخونُ حينئذٍ المؤتَمَنُ، ويَغُشُّ الناصح، وتشيعُ المخازي والفضائح، وتبدو في أموال بيتِ المال دواعي الاختزال والاستزلال والغُلول، ويمحق في أدراج خمل الخمول، وقد يُفضي الأمر إلى ثوران    الثوار في أقاصي الديار، واستمرار تطاير شرار الأشرار، وليس من الحزمِ الثقةُ بمواتاة الأقدار، والاستنامةُ إلى مدار الفَلَك الدوَّار، فقد يثورُ المحذور من مكمنه، ويؤتَى الوادع الآمن من مأمنه، ثم ما أهونَ البحثَ والتنقيرَ على من إليه مقاليدُ التدبير.
539 ـ على أنَّ هذا الخطبَ الخطيرَ قريبُ المدرك يسير، فلو اصطنع صدرُ الدين والدنيا مِن كل بلدةٍ زُمراً من الثِّقات على ما يرى، ورسم لهم أن يُنهوا إليه تفاصيلَ ما جرى، فلا يغَادروا نفعا ولا ضُرًّا إلا بلَّغوه اختفاءً وسراًّ، لتوافت دقائقُ الأخبار، وحقائقُ الأسرار على مُخَيَّم العِزِّ غَضَّةً طَرِيَّةً، وتراءَت للحضرةِ العلية مجارِي الأحوال في الأعمال القصية، فإذا استشعر أهل الخبل والفساد أنهم من صاحبِ الأمر بالمرصاد، آثروا الميلَ طوعاً أو كرها، إلى مسالك الرشاد وانتظمت أمور البلاد والعباد.
وما ذكرته ـ لو قدّر اللهُ ـ نتيجةُ خَطرةٍ وفِكْرَةٍ، وموجَبُ التفاته من الرأي السامي ونَظْرة.
وهذا الذي رمزتُ إليه على قُرب مدركِه ويُسرِه مَدْرَأةٌ لغائلةِ كل أمرٍ وعُسرِه، من غيرِ بذلِ مُؤنَة، واستمداد معونة.
]ب ـ وجوب مراجعة العلماء[
540 ـ ومما أُلقيه إلى المجلس السامي: وجوبُ مراجعة العلماء فيما يأتي ويذر؛ فإنهم قدوة الأحكام وأعلامُ الإسلام، وورثةُ النبوة، وقادة الأمة، وسادة الملة، ومفاتيح الهدى ومصابيحُ الدجى، وهم على الحقيقة أصحابُ الأمر استحقاقاً، وذوو النجدة مأمورون بارتسام مراسمِهم، واقتصاصِ أوامرِهم والانكفاف عن مزاجرهم.
وإذا كان صاحبُ الأمرِ مجتهداً، فهو المتبوع الذي يستتبعُ الكافةَ في اجتهاده ولا يَتْبَعُ.    
541 ـ فأما إذا كان سلطانُ الزمان لا يبلغ مبلغَ الاجتهاد فالمتبوعون العلماءُ، والسلطانُ نجدتُهم وشوكتُهم، وقوَّتُهم وبذْرقتُهم، فعالمُ الزمان في المقصود الذي نحاولُه، والغرضِ الذي نزاوله كنبيِّ الزمان، والسلطانُ مع العالم كملكٍ في زمان النبيّ، مأمورٌ بالانتهاء إلى ما يُنهيه إليه النبيّ.
542 ـ والقولُ الكاشفُ للغطاءِ، المزيلُ للخفاءِ، أن الأمرَ لله، والنبيُّ مُنهيه، فإن لم يكن في العصر نبيٌّ، فالعلماءُ ورثة الشريعة، والقائمون في إنهائها مقامَ الأنبياءِ، ومن بديعِ القول في مناصبهم أن الرُّسُلَ يُتَوَقَّعُ في دهرهم تبديلُ الأحكامِ بالنسخ، وطوارئُ الظنون على فكَر المفتين، وتغايرُ اجتهاداتهم يُغَيِّرُ أحكامَ الله على المستفتين، فتصيرُ خواطرُهم في أحكام الله تعالى حالَّةً محلَّ ما يتبدلُ من قضايا أوامرِ الله تعالى بالنسخ.
وهذه مرامزُ تؤمئُ إلى أمورٍ عظيمة لم أُطنب فيها مخافة الانتهاء إلى الإطراء، والإفراط في الثناء.
]ج ـ التيقظ للفتنة[
543 ـ ومما أُنهيه إلى صدْر العالَم بعد تمهيد الاطلاع على أخبار البقاع والأصقاع فتنةٌ هاجمةٌ في الدين، ولو لم تُتَدارك؛ لتقاذفت إلى معظم المسلمين، ولتفاقمت غائلتُها، وأعضلت واقعتُها، وهي من أعظم الطوامّ على العوامّ.
وحق على من أقامه الله تعالى ظهْرًا للإسلام أن يستوعب في رَحْضَ الملة عنها اللياليَ والأيامَ. وأقصى اقتداري فيه إنهاؤها كما نبغ ابتداؤُها، وعلى من ملَّكه الله أَعِنَّة الملك التشميرُ لإبعاد الخلق عن أسباب الهلك.
544 ـ وقد نشأَ ـ حرس الله أيامَ مولانا ـ ناشئةٌ من الزنادقة والمعطلة، وانبثوا في المخاليف والبلاد، وشمروا لدعوة العباد، إلى الانسلاخ عن مناهج الرشاد، واستندوا إلى طوائفَ من المرموقين المغترِّين، وأضحى أولئك عنهم ذابّين، ولهم منتصرين، وصار المغترون بأنعم الله، وتُرفةِ المعيشة، يتخذون فكاهةَ مجالسِهم، وهُزْوَ مقاعدهم ـ الاستهانةَ بالدين، والترامُزَ والتغامُزَ بشريعة المرسلين، وتعدَّى أثرُ ما يلابسونه إلى أتباعهم، وأشياعهم من الرّعاع المقلّدين، وفشا في عوامّ المسلمين شبهُ الملحدين، وغوائلُ الجاحدين، وكثر التخاوضُ والتفاوضُ في مطاعن الدين.
545 ـ ومن أعظم المحن، وأطمِّ الفتن، في هذا الزمن، انحلالُ عصام التقوى عن الورى، واتباعُهم نزعاتِ الهوى، وتشوفُهم إلى الاستمساكِ بحطام المنى، وعُرُوُّهم عن الثقةِ بالوعدِ والوعيدِ في العقبى، واعتلاقُهم بالاعتيادِ المحضِ في مراسم الشريعة تُسمع وتُروى، حتى كأنها عندهم أسمارٌ تُحْكَى وتُطوَى، وهم على شفا جرفٍ هارٍ من الرَّدى. فإذا انضم إلى ما هم مدفوعون إليه من البلْوى، دعوةُ المعطلة في السر والنجوى، خيف منه انسلالُ معظمِ العوامّ عن دين المصطفى، ولو لم تُتدارك هذه الفتنةُ الثائرة، أحوجت الإيالةَ إلى إعمال بطشةٍ قاهرة، ووطأةٍ غامرة.
]ترك الباقي من الواجبات لنظر "نظام الملك"[
546 ـ وقد كنتُ رأيت أَن أعرض على الرأي السامي من مهمات الدين والدنيا أموراً، ثم بدا لي أن أجمع أطرافَ الكلام. ومولانا أمتع اللهُ ببقائه أهلَ الإسلام أَخْبَرُ بمبالغ الإمكان، في هذا الزمان.
547 ـ وقد لاح بمضمون ما ردَّدْتُه من الإيضاح والبيان، ما إلى مولانا عليه، في حكم الإيمان؛ فإن رأى بيْنَه وبين المليك الديان بلوغَه فيما تطوَّقَه غايةَ الاستمكان، فليس فوق ذلك منصبٌ مرتقب، من القُربات ومكان وأوان، وإن فات مبلغَ الإيثار والاقتدار حالةٌ، لا يرى دفعها، فلا يكلِّف الله نفساً إلا وُسعَها، وإن تكن الأخرى، فمولانا بالنظر في مغبات العواقب أَحْرى.    
548 ـ وقد قال المصطفى في أثناءِ خُطبته: (كلكم راعٍ وكُلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه)، وقد عظُم والله الخطر لمقامِ مستقِلٍّ في الإسلام، مَن حكمه باتفاق علماءِ الأَنام أنه لو مات على ضِفَّةِ الفرات مضرور، أو ضاع على شاطئ الجيجون مقرور، أو تُصُوِّرَ في أطرافِ خِطة الإسلام مكروبٌ مغموم. أو تلوَّى في منقَطعِ المملكةِ مضطهد مهموم، أو جأر إلى الله تعالى مظلوم، أو بات تحت الضُّرِّ خاوٍ، أو مات على الجوع والضياع طاوٍ، فهو المسؤول عنها، والمطالَبُ بها في مشهد يوم عظيم، ]يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم[     
549 ـ وفي الجملة ففضل الله تعالى على مولانا عميم، والخطر في الاستقلال بالشكر عظيم، والرب تعالى رؤوف رحيم.      
550 ـ ومع هذا فمن سوغ لمولانا الإحجامَ عن مطالعة مصالح الأنام، فقد غَشَّه بإجماع أهلِ الإسلام، وفارقَ مأخذَ الأحكام.


0 التعليقات: