غياث الأمم في التياث الظلم 23
الباب الثالث
في شغور الدَّهر عن والٍ بنفسه أو متوَلٍّ
بغيره
فأقول:
551 ـ قد تقرر
الفراغ عن القول في استيلاءِ مستجمع لشرائط الإمامة، ثم في استغلاء ذي نجدةٍ
وشهامة، وقد حان الآن أن أفرض خلوَّ الزمان عن الكفاة ذوي الصرامة، خلوَّه عمن
يستحق الإمامة، والتصويرُ في هذا عسِر؛ فإنه يبعُد عُرُوَّ الدهرِ عن عارفٍ بمسالك
السياسة، ونحن لا نشترط انتهاء الكافي إلى الغاية القصوى، بل يكفي أن يكون ذا
حَصَاةٍ وأناةٍ، ودرايةٍ وهدايةٍ، واستقلالٍ بعظائمِ الخطوب، وإن دهته مُعضِلَةٌ استضاءَ
فيها برأي ذوي الأحلام، ثم انتهضَ مبادراً وجهَ الصواب بعد إبرام الاعتزام. ولا
تكاد تخلو الأوقات عن مُتَّصِفٍ بهذه الصفات.
552 ـ ولكن قد
يسهلُ تقديرُ ما نبغيه، بأن نفرض ذا الكفاية والدراية مضطهَداً مهضوماً، منكوباً
بعُسْرِ الزمان مَصْدوماً، مُحَلَّأً عن ورد النيل محروما.
وقد ذكرنا أن
الإمامة لا تثبت دون اعتضاد بعُدَّة واستعداد بشوكة ونجدةٍ، فكذلك الكفايةُ
بمجردها من غير اقتدارٍ واستمكانٍ لا أثرَ لها في إقامة أحكام الإسلام؛ فإذا
شَغَرَ الزمانُ عن كافٍ مستقلٍّ بقوةٍ ومُنَّةٍ، فكيف تجري قضايا الولايات، وقد
بلغ تغذُّرها منتهى الغايات. فنقول:
553 ـ أما ما يسوغ
استقلال الناس فيه بأنفسهم، ولكنَّ الأدبَ يقتضي فيه مطالعةَ ذوي الأمرِ، ومراجعةَ
مرموقِ العصر، كعقدِ الجُمع وجَرِّ العساكر إلى الجهاد، واستيفاءِ القصاصِ في
النفسِ والطرفِ، فيتولاه الناس عند خلوِّ الدهرِ.
ولو سعى عند شغور
الزمانِ طوائفُ من ذوي النجدةِ والبأس في نَفْضِ الطرق عن السُّعاة في الأرض
بالفساد، فهو من أهم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
554 ـ وإنما
يُنْهَى آحادُ الناس عن شَهْرِ الأسلحة استبداداً إذا كان في الزمان وزرٌ قوام على
أهل الإسلام، فإذا خلى الزمانُ عن السلطان، وجب البدار على حسب الإمكان إلى دَرْءِ
البوائق عن أَهْلِ الإيمان ونَهْيُنا الرعايا عن الاستقلال بالأنفس من قبيل
الاستحثاث على ما هو الأقرب إلى الصلاح والأدنى إلى النجاح، فإن ما يتولاه السلطان
من أمور السياسة أوقعُ وأنجع، وأَدفعُ للتنافُس وأجمع لشتات الرأي؛ وفي تمليك
الرعايا أمورَ الدماء وشَهْرَ الأَسْلحَة وجوهٌ من الخَبَل لا ينكرها ذوو العقل.
وإذا لم يصادف الناس قوّاما بأمورهم يلوذون به فيستحيلُ أن يؤمروا بالقعود عما
يقتدِرون عليه من دفْع الفساد؛ فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن، عمَّ الفسادُ البلادَ
والعبادَ.
وإذا أُمروا
بالتقاعد في قيام السلطان، كفاهم ذو الأمر المهماتِ، وأتاها على أقرب الجهات.
555 ـ [1]وقد
قال بعض العلماء: لو خلا الزمانُ عن السلطان فحقُّ على قُطَّانِ كلِّ بلدةٍ وسكانِ
كلِّ قريةٍ، أن يقدِّموا من ذوي الأحلام والنهى، وذوي العقول والحِجا من يلتزمون
امتثالَ إشاراتِه وأوامرِه، وينتهون عن مناهيه ومزاجرِه؛ فإنهم لو لم يفعلوا ذلك،
ترددوا عند إلمام المهمات، وتبلدوا عند إظلال الواقعات.
556 ـ ولو
انتُدِبَ جماعةٌ في قيام الإمام للغزوات وأوغلوا في مواطنِ المخافات، تعيَّن عليهم
أن ينصبوا من يرجعون إليه، إذ لو لم يفعلوا ذلك لَهَوَوْا في ورطاتِ المخافات، ولم
يستمروا في شيءٍ من الحالات.
560 ـ [1]ثم
كل أمرٍ يتعاطاه الإمامُ في الأموال المفوَّضة إلى الأَئمة، فإذا شَغَر الزمانُ عن
الإمام، وخلا عن سلطانٍ ذي نجدةٍ واستقلالٍ وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى
العلماء. وحقٌّ على الخلائقِ على اختلافِ طبقاتهم أن يرجِعوا إلى علمائهم، ويصدروا
في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك، فقد هُدوا إلى سواءِ السبيل،
وصار علماءُ البلاد ولاةَ العباد.
561 ـ فإن عسر
جمعهم على واحدٍ استبدَّ أهلُ كل صقعٍ وناحية باتباع عالمهم.
وإن كثر العلماءُ
في الناحية، فالمتبعُ أعلمُهم، وإن فُرض استواؤُهم، ففرضُهم نادرٌ لا يكاد يقع،
فإن اتَّفَق، فإصدار الرأي عن جميعهم مع تناقُضِ المطالب والمذاهب محالٌ، فالوجه
أن يتفقوا على تقديم واحدٍ منهم.
فإن تنازعوا
وتمانَعُوا، وأفضى الأمرُ إلى شِجارٍ وخصام، فالوجه عندي في قطع النزاع الإقراع،
فمن خرجت له القرعةُ، قُدّم.
563 ـ ومن الأسرار
في ذلك أنه إذا وُجِد في الزمان كافٍ ذو شهامة، ولم يجن من العلم على مرتبة
الاستقلال، وقد استظهر بالعُدَد والأنصار، وعاضدته مواتاةُ الأقدار فهو الوالي
وإليه أمورُ الأموال والأجناد والولايات، ولكن يتحتم عليه أن لا يبتَّ أمراً دون
مراجعة العلماء.
564 ـ فإن قيل:
هلاّ جزمتَ القولَ بأن عالِم الزمان هو الوالي، وحقٌّ على ذي النجدة والباس
اتباعُه، والإذعانُ لحكمه، والإقرانُ لمنصب عِلمِه.
قلنا: إن كان
العالمُ ذا كفاية وهدايةٍ إلى عظائم الأمور، فحق على ذي الكفاية العريِّ عن رتبة
الاجتهاد أن يتبعَه إن تمكن منه.
وإن لم يكن العالم
ذا درايةٍ واستقلال بعظائم الأشغال، فذو الكفاية الوالي قطعاً، وعليه المراجعةُ
والاستعلام، في مواقع الاستبهام، ومواضع الاستعجام.
565 ـ ثم إذا كانت
الولايةُ منوطةً بذي الكفاية والهداية، فالأموال مربوطةٌ بكلاءَتِه، وجمعِه
وتفريقه ورعايته؛ فإن عمادَ الدولة الرجال، وقوامُهم الأموال.
فهذا منتهى القول
في ذلك.
566 ـ وقد انتهى
القول إلى الركن الثالث، وهو الأمر الأعظم الذي يطبقُ طبقَ الأرض فائدتُه،
وتستفيضُ على طبقات الخلق عائدتُه. والله ولي التوفيق بمَنِّه وفضله.
0 التعليقات:
إرسال تعليق