غياث الأمم في التياث الظلم 21
حكم
خروج نظام الملك للحج[
517 [i]ـ
ومما يتعيَّنُ الآنَ إيضاحُه قضيةٌ ناجزة، يؤولُ أثرُ ضُرِّها وخيرِها، إلى
الخلائق على تفاوت مناصبِها، ويظهرُ وقعُه في مشارقِ الأرض ومغاربِها.
وهي أنه شاعَ في
بلادِ الإسلامِ تشوُّفُ صدرِ الأنام، إلى بيت الله الحرام، وقد طوَّق اللهُ هذا
الداعيَ من معرفةِ الحلالِ والحرامِ، ما يوجب عليه إيضاحَ الكلام، في هذا المرام،
وكشفَ أسباب الاستبهام والاستعجام، فأقول وبفضل الله الاعتصام:
إن كان ما صمَّمَ
صدرُ الإسلامِ عليه الرأيَ والاعتزام، من ابتغاءِ تِيك المشاعرِ العظامِ،
مُتَضَمِّناً قطعَ نظرِه عن الخليقة، فهو محرَّمٌ على الحقيقة.
518 [1]ـ
وأنا أُوضِّح المسلكَ في ذلك، وأُبَيِّنُ طريقَه، فليست الأعمالُ قُرُباً
لأعيانِها، وذواتها، وليست عباداتٍ لما هي عليها من خصائصِ صفاتِها، وإنما تقعُ
طاعةً من حيث توافقُ قضايا أمرِ الله تعالى في أوقاتِها.
فالصلاةُ الموظفةُ
على العبد لو أتى بها على أبلغِ وجهٍ في الخضوعِ، والاستكانة والخشوع، قبل أوانها،
لم تقع موقع الاعتداد، والصلاةُ ممن هو أهلها من أفضل القُرُبات، ولو أقدم عليها
مُحدِثٌ كان ما جاءَ به من المنكرات.
519 ـ فالحجُّ
إحرامٌ ووقوفٌ، وإفاضةٌ وطوافٌ ببيت مشيد من أحجار سود، وترددٌ بَيْن جَبَليْن،
على طَوْرَيِ المشي والسعي، وحِلاق، إلى هيآتٍ وآدابٍ، وإنما تقع هذه الأفعالُ
قُرباً من حيثُ توافقُ أمرَ الله تعالى وتقدَّس.
وقد أجمعَ
المسلمون قاطبةً على أن من غَلَب على الظَّن إفضاءُ خروجِه إلى الحجِّ إلى تعرُّضه
أو تعرُّضِ طوائفَ من المسلمين للغَرَرِ والخطر، لم يجز له أن يغرِّرَ بنفسِه وبذويه، ومن يتصل به ويليه، بل يتعينُ
عليه تأخيرُ ما ينتحيه، إلى أن يتحقَّقَ تمامُ الاستمكان فيه.
وهذا في آحادِ
الناس ومن يختصُّ أمرُه به، وبأَخصِّه.
520 ـ فأما من
ناطَ الله به أمورَ المسلمين، وربطَ بنظرِه معاقد الدين، وظلَّ للإسلام كافلاً
وملاذاً، وكهفاً ومَعاذاً، ولو قطعَ عن استصلاحِ العالمين، ومَنْعِ الغاشمين،
ودفعِ الظالمين، وقمعِ الناجمين ـ نظرَه، لارتبك العباد، والرعايا والأجناد، في
مهاوي العبث والفساد، واستطالَ المبتدعةُ الزائغون، وثار في أطراف الخِطةِ
النابغون، وزالت نضارةُ السُّنَّة وبهجتُها، ودرست أعلامُها ومحجَّتُها.
521 ـ فكيف يحِل
لمن يحُل في دين الله هذا المحل، وقد أحال الله عليه العقدَ والحلَّ، وأناط
بإقباله وإعراضه العِزَّ والذلّ، وعلَّقَ بمنحِه ومنعِه، الكُثرَ والقُلّ، وربط
بلحاظه وتوقيعاته وألفاظِه، الرفعَ والخفضَ والإبرامَ والنقض، والبسط والقبض ـ أن
يقدّمَ نُسُكاً يخُصُّه، على القيام بمناظِمِ الإسلام، ومصالحِ الأنامِ، وأيةُ
حُجَّةٍ تَعْدلُ هذه الخطوبَ الجِسام، والأمورَ العظام بِحَجِّه؟؟
522 ـ فإن اعترض
متكلِّف في أدراجِ الكلام، وقال: من جرَّد الاعتصامَ بطَوْلِ الله وفضلِه، ووصلَ
حبْلَ أَمَلِه بحَبله، كفاه مُلاحظَةَ الأغيارِ، ووقاه ما يحاذر ويجتنب، ورزقه من
حيث لا يحتسب، وقد ضَمِنَ اللهُ أن يحفظ من الدين نظامَه إلى قيام القيامة،
والاستمساك بكافية ربِّ الأرباب أولى من الاتكال على الأسباب.
قلت: هذا من
الطوامِّ التي لا يتحَصَّلُ منها طائل، ولا يعثرُ الباحثُ عنها على حاصِل، كلمةُ حقٍّ أُريدَ بها باطل. ولو
حكَّمنا مساقَ هذه الطامَّات لجرَّتْنا إلى تعطيلِ القُرُبات، وحسْم أسباب
الخيرات، ولاسْتوت على حكمها الطاعاتُ والمنكرات، وبطلت قواعدُ الشرائع، واتجهت
إليها ضروبُ الوقائع وأضحى ما شبَّبَ به المعترض في التعطيل من أقوى الذرائع.
فمضمونُ ما بلَّغه المرسلون أسبابُ الخيرِ واجتنابُ دواعي الضَّيْرِ، ثم الأكلُ
سببُ الشِّبع، والشربُ سببُ الرِّي، وهلمَّ جرًّا، إلى كلِّ مسخوطٍ ومرضِيِّ.
523 ـ ويجب من
مساقِ ذلك ردُّ أمر الخلق إلى خالقهم، والانكفافُ عن الأَمر بالمعروف، والانصراف
عن إغاثةِ كلِّ ملهوف.
وبهذه الترهات
يُعطلُ طوائفُ من ناشئةِ الزمان، واغتروا بالتخاوُضِ والتفاوض بهذا الهَذيان.
فالأُمورُ كلها
موكولةٌ إلى حكم الله، وليست أعمالُ العباد موجِبةً ولا علَّةً.
ولكن الموفَّقَ
لمدْرَك الرشاد، ومسلكِ السداد، من يقومُ بما كُلِّفه من الأسباب، ثم يرَى فوزَه
ونجاتَه بحكم رب الأرباب.
524 ـ فإذا وضحَ
أن قيامَ صدرِ الدهر، وسيدِ العصر، بمُهمات الدين والدنيا، وحاجاتِ الورَى سببٌ
أقامه الله مطمَحاً لأَعينِ العالمين، وشوفاً للآملين، فلا تبديلَ لما وضع، ولا
واضع لما رفع، فَلنُضْرب عن هذه الفنون إضرابَ من لا يستبدلُ عن مدارك اليقين
مسالكَ الظنون.
]متى يجوز لنظام الملك الحج؟[
527 ـ ثم إذا
تمهدت السُّبل، وانزاحت العوائقُ والعلل، وأظلَّت من الأَمَنة على الطارقين
الظُّلَلُ، وآضت على البخاتيّ المَجْنَحاتُ و الكِلل، وسَفَرَتْ الحياض، وحُمِيتْ
على الحجيج الرياض و الغياض، وعُمِّرت الأَمْيال، وأُقيمت على المتاهات الصُّوَى
والأَطلال، وتُفُقِّدت الآبار، وتُعُهِّدَت الأَعْلامُ والآثارُ، ورُتِّبَ على
المياه العِدَّة. ذوو النَّجْدةِ والعُدَّة، وتمادت على اطّراد الأمن المُدَّة،
فإذ ذاك ينتهض صدرُ الزمان، محفوفاً بحفظ الله ورعايته، مكفوفاً بأنعمه وكلاءَتِه،
والسعادة خدينُه، واليُمنُ قرينُه، في كتيبةٍ باسلة، يرتجُّ لها الأداني والأقاصي،
ويتطامنُ لوقْعِ سنابكِها الصياصي، ويستكينُ لنجدتها النواصي، يخفقُ عليها رايتُه
العليَّة، ويسطعُ لألاءُ العُلا من غُرَّتِه البهيَّة، بَجنُبُه النجاح، ويحتوِشُ
موكبَه الفلاحُ، والبَرِيَّة يطوي منازلَها، ويقرِّبُ مناهلَها. فيوافي الميقات
المشرقِيَّ بذات عرق، وأَمرُه السامي منسحبٌ على أقصى بلادِ الشرق.
هذه النهضةُ هي التي
تليق بسُدَّتِه المنيفة، وساحته الساميةِ الشريفة.
528 ـ فأما
مبادرةُ المناسك، ومسارعةُ المدارِك، قبل استمرارِ المسالِك، فمحذورٌ محرَّمٌ
ومحظور، ومَنْ جَلَّ في الدينِ خطرُه دقَّ في مراتبِ الديانات نظرُه.
529 ـ فهذه تراجمُ
منَبِّهَةٌ على مناظِم المقاصد، لا يجحدها جاحد ولا يأباها إلا معاند، لم أوردها
تشدُّقاً، ولم أتكلَّفْها تعمُّقاً، ولكني رأيت إيضاحَها في دين الله محتوماً،
وكشفَها فرضاً مُتَعَيَّناً مجزوماً، فإن تعدَّيتُ مراسِمَ الأدب، فالصدقَ قصدتُ،
والحقَّ أردتُ، وقد ـ والله ـ أوضحتُ وأَبلغت، وأنهيت حكم الله وبلغت.
والله المستعان
وعليه التُّكلان.
0 التعليقات:
إرسال تعليق