07‏/09‏/2014

غياث الأمم في التياث الظلم 19

غياث الأمم في التياث الظلم 19
استيلاء كافٍ ذي نجدة غير مستوفي الصفات[

474 ـ فإن خلا الزمان عن كاملٍ على تمام الصفات، نُظِر: فإن نَصَبَ أهلُ النصبِ كافياً على ما تقدَّم تفصيلُ انخرامِ الصفات على ترتيبٍ قدمتُه في الرُّتَب والدرجات ـ يَنْزِلُ منزلةَ الإمام في إمضاء الأحكام وتمهيدِ قواعد الإسلام.
475 ـ وإن استولى بنفسه، واستظهر بعُدَّته، وقام بالذَّبِّ عن بيضة الإسلام وحوزته ـ فالأمر في ذلك ينقسم حَسَبَ انقسام الكلام فيه إذا كان المستولي صالحاً للإمامة.

] حكم المستولي الكافي الذي لايشاركه غيره [

476 ـ فإن تُصُوِّرَ تَوَحُّدُ كافٍ في الدهر لا تُبارى شهامتُه، ولا تُجارى صرامتُه، ولم نعلم مُستقلاًّ بالرياسةِ العامَّةِ غيره ـ فيتعيَّنُ نصبُه.
ثم تفصيلُ تعيُّنِه كتفصيل تعيُّنِ من يصلح للإمامة، كما تقدَّم حرفاً حرفاً.   
 
477 ـ وأنا الآن أمدُّ في ذلك أنفاسي؛ فإنه من أهم المقاصد وأعمِّ الفوائد، وهو مُفْتَتَح القول في بيان ما دُفع إليه أهلُ الزمان.

والمقاصد من ذلك يحصُرها أمور:     
أحدها: أن القائم بهذا الأمر في خلو الدهر، وشغور العصر في حكم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ولا بد من إثبات ذلك بالواضحة والحجة اللائحة، حتى إذا تقرَّرت القاعدةُ، رتَّبْنا عليها ما يتضح به المقصود إن شاء الله، والله المستعان المحمود.    

478 ـ وقد اتفق المسلمون قاطبةً على أن لآحاد المسلمين وأفراد المستقلِّين بأنفسهم من المؤمنين أن يأمروا بوجوه المعروف، ويسعَوْا في إغاثة كل ملهوف، ويُشَمِّروا في إنقاذ المشرفين على المهالك والمتاوي والحتوف.
479 ـ وكذلك اتفقوا على أن من رأى مضطراً مظلوماً، مضطهَداً مهضوماً، وكان متمكناً من دفع مَنْ ظَلَمَه، ومَنْعِ مَنْ غَشَمَه، فله أن يدفع عنه بكُنْه جُهْدِه وغايةِ أيْدِه، كما له أن يَدْفَع عن نفسه.

480 ـ ولو همَّ رجلٌ أن يأخذَ مقدارَ نَزْر وَتح من مال إنسان، فله أن يدفعَه باليد واللسان، وإن أتى الدفع على القاصد ظلما، كان دمُه مهدراً محبَطا، مطلولاً مُسقطاً.    

481 ـ فإذا كان يجوز الدفعُ عن الفَلْس والنفس باللسان والخَمس، ثم بالسلاح والجِراح، من غير مُبالاةٍ بزهوق الأرواح، مع التعرّض للتردد بين الإخفاق والإنجاح، فلو انتفض الدهر عن إمام، ذي استقلالٍ، وقيامٍ بمهمات الأنام، ولا خبالَ في عالَم الله يُبِرُّ على التِطامِ والرِّعاعِ والطَّغام، وهمج العوام، ولو جَرَت فَتْرَةٌ في بعض الأعوام، وجرَّت ما نحاذرُه من خروج الأمور عن مسلك الانتظام ـ لَلَقِيَ أهلُ الإسلام أهوالاً واختلالاً، لا يحيطُ بوصفه غاياتُ الإطناب في الكلام، ولأكل بعضُ الناس بعضا، وارتجت الممالك، واضطربت المسالك طولاً وعرضا.

ثم إذا خلت الديارُ عن الجنود المعقودة والأنصار، استجرأَ الكفارُ، وتمادى الفسادُ والانتشار، وعم الشرُّ والضرُّ وظهر الخبال في البر والبحر: فكم من دماءٍ لو أفضى الأمر إلى ذلك، تُسفك، وكم من حُرمات تُهتَك، وكم من حدودٍ تضيعُ وتُهْمَل، وكم ذريعةٍ في تعطيل الشريعة تَعمل، وكم من مناظمَ للدين تَدْرُس، وكم معالمَ تُمْحَق وتُطْمَس، وقد يتداعى الأمرُ إلى أصل الملة، ويُفضي إلى عظائمَ تَسْتَأْصِلُ الدينَ كُلَّه، إذا لم ينتهض من يحملُ عناءَ الإسلام وكَلَّه.    

482 ـ فلو انتهى الخطْبُ إلى هذا المنتهَى، واستمكن متوحِّدٌ في العالم من العَدَد والعُدَد، وموافاةِ الأقدار، ومصافاةِ الأعوان والأنصار، وثَقَابَةِ الرأي والنُّهى وعزيمةٍ في المُعضلات لا تُفَلّ، وشكيمةٍ لا تُحَلّ؛ وصرامةٍ في الملمات يَكِلُّ عن نفاذها ظُباتُ السيوف، وشهامةٍ في الدَّواهي المدلَهِمَّات تستهينُ باقتحامِ جراثيم الحتوف، وأناةٍ يَخفُّ بالإضافة إليها الأطوادُ الراسخة، وخِفةٍ إلى مصادمة العظائمِ تستفزُّ ثِقَلَ الأطواد الشامخة، ، وقد حنَّكَتْهُ التجارِبُ، وهذَّبَتْه المذاهب، يُسْكِتُه حِلمُه، ويُنطِقُه علمُه، وتُغْنيه اللَّحْظَةُ، وتُفهمُه اللَّفظةُ، يخدمُه السيفُ والقلمُ، ويعشو إلى ضوء رأيه الأمم.
هذه الخلالُ. إلى استمساكٍ من الدين بالحبل المتين، واعتصامٍ بعُرى الحق المبين، ولياذٍ في قواعد العقائد بثلَج الصدر وبَرْدِ اليقين، وثقةٍ بفضل الله لا يكدِّرُها نوائبُ الأزمان، ولا يُغَيِّرُها طوارقُ الحَدَثان.
وحقُّ المليك الديّان، إنه يقصر عن أدنى معانيه ومعاليه غاياتُ البيان.    

483 ـ هذه كناياتٌ عن سيد الدهر، وصدر العصر، ومن إلى جنابه منتهى العلا والفخر، وقد قَيَّضَه الله جلَّت قدرتُه لتولِّي أمور العالمين وتعاطيها، وأُعطي القوسُ باريها. فهو على القطع في الذَّبِّ عن دين الله، والنضالِ عن المِلَّة. وترفيه المسلمين عن كُلِّ مَدْحَضَةٍ ومَزَلَّةٍ، وتنقية الشريعة عن كل بدعةٍ شنعاءَ مُضِلَّةٍ، وكفِّ الأكُفِّ العاديةِ. وعَضدِ الفئةِ المرشدةِ الهاديةِ، في مقام شفيقٍ رفيقٍ، قوامٍ على كفالةِ أيتام: ينتحي غبطتَهم، ويتجاوزُ عثرتَهم وسقطتَهم.

484 ـ وإذا كان يقومُ الرجلُ الفردُ بالذَّبِّ عن أخيه وبهداية من يستهديه، ونُصرةِ من يندُبُه ويستدعيه، فالإسلام في حكم شخصٍ مائلٍ يلتمسُ من يُقيمُ أَوَدَه، ويجمع شتاتَه وبدَدَه، ويكونُ عضدَه ومدَدَه، ووزرَه وعُددَه.
فلئن وجَبَ إسعافُ الرجل الواحدِ بمُناه وإجابتُه في استنجاده واسترفاده إلى مَهْواه ـ فالإسلامُ أولى بالذَّبِّ؛ والنَّادبُ إليه الله.

485 ـ وإنما لم يجعل لآحاد الناس شهرُ السلاح، ومحاولةُ المِراس في رعايةِ الصلاح والاستصلاح، لما فيه من نُفْرةِ النفوس، والإباءِ والنِّفاسِ، والإفضاء إلى التَّهارشِ والشِّماس.    

486 ـ والذي يزيلُ أصل الإشكال والإلباس أنَّا نُجَوِّزُ للمُطَّوِّعَة في الجهاد الإيغالَ في بلاد أهل العناد من الكفار، على الاستبداد، وإن كان الأَوْلَى أن يكون صَدَرُهم عن رأي الإمام الذي إليه الاستناد؛ فلما كان غايتُهم الاستشهادَ ـ والشهادةُ إحدى الحُسْنَيَيْن ـ لم يُمْنع المُطَّوِّعةُ من التشمير للقتال.
والنزاعُ بين المسلمين محذور، والسبب المفضي اليه محرمٌ محظور. فإذا استقلَّ فردُ الزمان بعُدَّةٍ لا تصادَم، واستطالت يده الطولى، على الممالك عرضا وطولا، واستتبت الطاعةُ، وأمكنت الاستطاعة، فقيامُه بمصالح أهلِ الإيمان بالسيف والسنان، كقيام الواحد من أهل الزمان بالموعظة الحسنة باللسان.
    
487 ـ فالمتبع في حق المتعبدين الشريعةُ ومستندها القرآن، ثم الإيضاح من رسول الله صل الله عليه وسلم  والبيان، ثم الإجماعُ المنعقِدُ من حَمَلَة الشريعة من أهل الثِّقَة والايمان.
فهذه القواعدُ. وما عداها من مستمسكات الدين كالفروع والأفنان.

488 ـ والإمامُ في التزام الأحكام، وتطوُّقِ الإسلام كواحدٍ من مكلِّفي الأنام. وإنما هو ذريعةٌ في حمل الناسِ على الشريعة، غيرَ أن الزمان إذا اشتملَ على صالحين لمنصب الإمامة، فالاختيارُ يقطع الشجارَ، ويتضمَّنُ التعيُّنَ والانحصارَ، ولا حكمَ مع قيام الإمام إلا للمليك العلام.

489 ـ فإذا لم يتفق مستجمعٌ للصفات المرعيَّة، واستحالَ تعطيل الممالك والرعيَّة، وتوحَّدَ شخصٌ بالاستعداد بالأنصار والاستظهار بعُدَدِ الاقتهار والاقتسار والاستيلاء على مردة الديار وساعدَتْه مواتاةُ الأقدار، وتطامنت له أقاصي الأقطار، وتكاملت أسباب الاقتدار. فما الذي يُرَخِّصُ له في الاستئخار عن النُّصرة والانتصار؟؟

490 ـ فالمعنى الذي يُلْزمُ الخلقَ طاعةَ الإمام، ويُلزمُ الإمامَ القيامَ بمصالح الإسلام أنه أيسر مسلك في إمضاء الأحكام، وقطع النزاع والإلزام، وهو بعينه يتحقق عند وجودِ مقتدرٍ على القيام بمهمات الأنام، مع شغور الزمان عن إمام.

فمن استمسك بالحق، ولم يَمِلْ به مَهْوى الهوى عن الصدق؛ تبين على البِدَار والسبق أن خزائنَ العالمين، وذخائرَ الأمم الماضين، وكنوزَ المنقرضين، لو قوبلت بوطأةٍ من الكفار لأطراف ديارِ الإسلام، لكانت مُسْتحقرةً مستنزةً. فكيف لو تملكوا البلادَ، وقتلوا العبادَ، وقرعوا الحصونَ والأسدادَ، ومزَّقوا عن ذوات الخدور حُجَبَ الرشاد، ومال إليهم من لا خلاقَ له من حُثالةِ الناس بالارتداد، وتحلل الحرائرَ العلوجُ، وهتك حجالَهن التبذُّلُ والبروجُ، وهُدِّمَت المساجدُ ورُفعت الشعائر والمشاهد، وانقطعت الجماعات والآذان، وشُهِرت النواقيسُ والصُّلبان، وتفاقمت دواعي الاجتراء والافتضاح، وصارت خطة الإسلام بحرًا طافحاً بالكفر الصُّراح؟؟

فما القولُ في أقوامٍ بذلوا في الذبِّ عن دين الله حُشاشاتِ الأرواح، وركبوا نِهاياتِ الغَرر متجردين لله تعالى في الكفاح، وواصلوا المساءَ بالصباح. والغُدُوَّ بالرواح، وركبوا إلى الموت أجنحةَ الرياح، متشوفين إلى منهل المنايا على هِزَّةٍ وارتياح؟ حتى وافَوْا بحراً من جمع الكفار لا ينْزِفُه إدمانُ الانتزاح، فركنوا للموت، وتنادَوْا أن لا براح، وألموا بهم إلمام القَدرِ المتَّاحِ، وما وهنوا وما استكانوا وان عضهم السلاح، وفشى فيهم الجراح، حتى أهبَّ اللهُ رياحَ النصر من مهابِّها، ورد شعائر الحق إلى نصابها، وقيض من ألطافه بدائع أسبابها.

أيثقُل هؤلاءِ على أهل الإسلام بنَزْرٍ من الحُطام؟ وهم القوَّامُ والنظام.  

0 التعليقات: