07‏/09‏/2014

غياث الأمم في التياث الظلم 20

غياث الأمم في التياث الظلم  20

]حكم تخلي الإمام عن منصبه[
505 [1]ـ فإن قيل: هل يرخِّصُ الشارعُ للمستقلِّ بالمنصب الذي وصفتموه النزولَ عنه، والتخلِّي لعبادة الله، وإيثار الامتياز والانحجاز عن مظانِّ الغَرر، ومواقع الخطر، وتفويض أمر العباد إلى خالقهم ورازقهم.؟
قلنا: لا يحل للقائم بالأمر الانسلالُ والانخزالُ عما تصدَّى له من كفاية المسلمين عظائمَ الأشغال، إذا علم أنَّه لا يخلفُه من يَسُدُّ في أمر الدين والدنيا مَسَدَّه، ويرُدُّ بوادِرَ الظَّلَمة ردَّه، وتبين أن من يتشوفُ إلى الاستقلال بالأشغال، لا يبوء بالأعباء والأثقال، ولا يرجع إلى حِشمةٍ وازعة، وأُبَّهة رادعةٍ، ورأيٍ مطاع، واستبدادٍ بمتابعة أشياع، ومشايعة أتباع، وتوفُّرٍ من هممِ الخلقِ ودواعٍ في الإذعان والأتباع، وإصفاقٍ وإطباقٍ من طبقات الخلق في الآفاق، على الثقة بأقواله والركون إلى متصرِّفات أحواله، واعتقادٍ مصمِّمٍ من كافَّة الورى، من يرى ومن لا يرى، أنه إذا تعطَّف وترأَّف فكافلٌ شفيق، وناصحٌ رفيق، وإن استجار ملهوفٌ بذُراه فركنٌ وثيق، وإن تغَشَّت سخطتُه جبابرةَ الأرضِ لم يبق منهم في الحناجر ريق. يعمُّ أهلَ الخلافِ والوفاقِ نصحُه وإشفاقُه، ويطبّقُ طَبَقاتِ الخلائق مَبَارُّه وإرفاقُه، ويستنيمُ إلى مأمن إنصافِه كلُّ خَتَّارٍ غادر، ويستكينُ لهيبته، كلُّ جبَّارٍ قاسر، قد استطال على الرِّقاب الغُلظ فرسانُه، واستمالَ حباتِ القلوبِ إحسانُه.

507 ـ ولو فَرضَ فارضٌ مستظهِراً بالعُدَدِ بطَّاشاً بأنصار، من غير رجوعٍ إلى اعتزامٍ وافتكار، ونظرٍ في مهمات الرعايا واعتبار، لصارت الخِطةُ فِراشاً لكل عار، وفَراشاً لكل نار، ثم من ينتهضُ لدين الله بالذَّبِّ والانتصار؟ ومن يتعطف عاطفتَه على علماء الأقطار؟ ومن يكلأ بالعين الساهرة شِعارَ الدين في أقاصي الديار والأمصار؟ ومن يحسم غوائلَ البدع بالرأيِ الثاقب، من غير إثارة فتنة وإظهار ضرار؟ ومن يُداوي بلطف الخُلُقِ ما يَكِلُّ عنه غِرارُ الحسام البتار؟ ومن يهتم بالمساجد؛ والمشاهد؛ والمجالس؛ والمدارس؛ في الأمصار؟ ومن الذي يحنُّ إلى سُدَّته زُمرُ الأولياء والأخيار، حنينَ الطير إلى الأوكار؟ ومن الذي يستوظفُ معظمَ ساعات الليل والنهار، في الإصاخة إلى كلام الملهوفين من غير تَبَرُّمٍ واستكثار؟
فإذا لم يقم أحدٌ مقامَه في أدنى هذه الآثار، تعيَّن عليه قطعاً على الله العظيم شأنُه الثبوتُ والاصطبار، والانتدابُ لله عزت قدرتُه في هذه المآرب والأوطار.    

ليس يخفي على ذوي البصائر والتحقيق، أن القيام بالذَّبِّ عن الإسلام، وحفظِ الحوزةِ مفروضٌ، وذوو التمكن والاقتدار مخاطبون به، فان استقل به كُفاةٌ،      سقط الفرضُ عن الباقين، وإن تقاعدوا وتجادلوا، وتقاعسوا وتواكلوا عمَّ كافةَ المقتدرين الحرج على تفاوتٍ في المناصب والدَرج.

]منزلة فروض الكفايات[

509 [2]ـ ثم الذي أراه أن القيامَ بما هو من فروضِ الكفايات أحرى بإحراز الدرجات، وأعلى في فنونِ القُرُبات من فرائض الأعيان؛ فإن ما تعيَّن على المتعبد المكلَّفِ، لو تركه ولم يقابِل أمرَ الشارع فيه بالارتسام، اختصَّ المأثمُ به، ولو أقامه فهو المثاب.
ولو فُرض تعطيلُ فرضٍ من فروضِ الكفايات لعمَّ المأثم على الكافةِ على اختلاف الرتب والدرجات؛ والقائم به كافٍ نفسَه وكافةَ المخاطبين الحرجَ والعقابَ، وآمِلٌ أفضلَ الثوابِ، ولا يهون قدرُ من يحُل محلَّ المسلمين أجمعين في القيام لمُهِمٍّ من مهمات الدين.

510 ـ ثم يُقْضَى عليه بأنه من فروض الكفاياتِ، قد يتعينُ على بعض الناس في بعضِ الأوقاتِ؛ فإن من ماتَ رفيقُه في طريقه، ولم يحضُر موتَه غيرُه، تعيَّن عليه القيامُ بِغُسْلِه وتكفينِه ودفنِه، ومن عثَر على بعضِ المضطرين وانتهى إلى ذي مخمَصة من المسلمين، واستمكن من سَدِّ جَوْعَتِه، وكفايةِ حاجتهِ ولو تعدَّاهُ، ووكلَه إلى مَنْ عَدَاه، لأوشك أن يهلِكَ في ضَيْعَتِه، فيتعيَّنُ على العاثِر عليه القيامُ بكافيتِه.

511 ـ وأقربُ مثالٍ إلى ما نحاولُ الخوضَ فيه ـ الجهادُ، فهو في وضع الشرع مع استقرار الكفار في الديار من فروض الكفايات، فلو وقف من هو من أهل القتال في الصف، وعدد الكفار غيرُ زائدٍ على الضعف، ثم آثرَ بعد الوقوف للمناجزةِ المحاجزة، والانصرافَ من غير تَحرُّفٍ لقتالٍ، أو تَحَيُّزٍ إلى فئة، فقد باءَ بغضبٍ من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير، فيصيرُ ما كان فرضاً على الكفاية مُتَعَيِّناً بالملابسة.

وقد قال العلماء ليس للرجلِ أن يخرج إلى صَوْبِ الجهاد على الاستبداد، دون إذنِ الوالدين، ولو خرج دونها، كان عاقًّا، مخالفاً لأمر الله مُشاقًّا، ولو خرجَ من غير استئذان وانغمس في القتال، لمَّا التقى الصفَّان، فليس له أن يرجع الآن، وإن لم يتقدم منه استئذان، وكان خروجُه على وجه العقوق والعصيان.

وكذلك العبدُ القِنُّ ليس له أن يخرج إلى الجهاد دون إذن مولاه، فلو استقلَّ بنفسه وخرج، كان شارداً آبقا متمرداً على مالك رِقِّه، تاركاً ما أوجب الله من رعاي حقِّه. وهو في حركاته. وسكناته، وتردُّداتِه في جميع تاراته وحالاته، معَرَّضٌ لسخط الله وسوءِ عقابه، ثم لو تمادى على إِباقة وشِراده، ووقفَ في الصف على استبداده، تعينت عليه المصابرةُ، حتى تضعَ الحربُ أوزارَها.
فهذه جمل قَدَّمْنا تَذكارَها. وأنا أوضح الآن مواقعَها وآثارَها، فأقول:   
512 [3]ـ قد تحقَّق أنَّ صدرَ الورى، وكهفَ الدين والدنيا، احتملَ أعباءَ الملة وأثقالَها، وتقلَّد أشغالَها، وجردت إليه الخليقةُ آمالَها، وجررت إليه الأماني أذيالَها، وربطت ملوكُ الأرض بعالي رأيِه سلمَها وقتالَها، ووِفاقَها وجدالَها، وواصلَت البرِيَّةُ في اللياذِ به غُدُوَّها وآصالَها، ولو آثرَ الإيداعَ أياماً معدودة لَبُدِّلَت الاستقامةُ أحوالَها، وزُلزِلت الأرضُ زلزَالَها، وأَبْدَت غوائلُ الدهرِ أهوالهَا، وبلغ الأمرُ مبلغاً يعسُرُ فيه التداركُ، ولا يُرجى معه التماسُك.

513 ـ فإذا كان يجبُ على العبد الآبقِ إذا لابسَ القتالَ ووقفَ في صفِّ الأبطالِ أن يصابر، ويستقرَّ ويثابر؛ لأنه لو انصرف، لأفضى انصرافُه وانعطافُه إلى انفلال الجند، وانحلال العقد.

514 ـ ثم إذا كثرَ الجمعُ في صفِّ الإسلام، فقد يَقلُّ أَثَرُ واحدٍ ينسَلُّ وينفكُّ، وربما لا يستبينُ له وقعٌ، ولا يظهرُ لوقوفه في نظرِ العقلِ نفعٌ ولا دفع، إذا كانت بنودُ الإسلام تخفق على مائةِ ألفٍ مثلاً، أو يزيدون، ولكن حَسَمَ الشرعُ سبيلَ الانصراف والانكفافِ؛ فإن تسويغَ الانفلال للواحدِ يؤَدِّي إلى تسويغِه لغيرِه، وهذا يتداعى إلى خروجِ الأمر عن الضبط؛ إذِ النفوسُ تتشوفُ إلى الفرارِ من مواطنِ الردَى، وتتنكُّبِ أسبابِ التَّوى.  
 
515 ـ فإذا تقرر ذلك من حكم الشريعة، فمن وقفَ في الاستقلال بمهماتِ المسلمين والذَّبِّ عن حوزةِ الدين، موقفَ من هو من في الزمان صدرُ العالمين، ولو فُرض ـ والعياذُ بالله ـ تقاعدُه عن القيام بأَمر الإسلام، لانقطع قطعاً سلكُ النظامِ، فلأَن تجبُ عليه المصابرةُ، مع العلم بأنه لا يَسُدُّ أحدٌ في عالم الله مَسَدَّه بَعدَه، وقد أضحى للدين وزيراً وعُدةً، وانتُدِبَ للسنَّة والإسلام جُنَّةً وَحْدَه ـ أَوْلَى.
516 ـ فخرج من ترديد المقالِ في هذا المجال، والاستشهادِ بالأمثال قولٌ مبتوتٌ، لامِراءَ فيه، ولا جدالَ في أنه يجبُ على صدر الدين قطعاً من غيرِ احتمالٍ ـ الاستثباتُ على ما يلابسُه من الأحوال.
وأنا اتحدَّى علماءَ الدهرِ فيما أوضحتُ فيه مسلكَ الاستدلال، فمن أبدى مخالفةً فدونَه والنِّزال، في مواقف الرجال.
وهو قولٌ أَضمن الخروجَ عن عُهدته في اليوم الجَمِّ الأَهوال، إذا حَقَّتِ المحاقة في السؤال، من الملك المتعال، ذي الجلال. ثم قرباتُ العالمين، وتطوعاتُ المتقربين، لاتُوازي وقفةً من وقفاتِ من تعيَّن عليه بذلُ المجهود في الذَّبِّ عن الدين.




0 التعليقات: