01‏/09‏/2014

غياث الأمم في التياث الظلم 15

غياث الأمم في التياث الظلم 15
أقول: لست أحاذرُ إثباتَ حكم لم يدوِّنه الفقهاء، ولم يتعرض له العلماء، فإن معظم مضمون هذا الكتاب لا يلفى مدوَّناً في كتاب، ولا مُضَمَّناً لِباب. ومتى انتهى مساقُ الكلام إلى أحكام نظمَها أقوام، أحلتُها على أربابها وعزيتها إلى كتابها. ولكني لا أبتدع، ولا أخترع شيئاً، بل ألاحظُ وضعَ الشرع، وأستشير معنىً يناسب ما أراه وأتحراه، وهكذا سبيلُ التصرف في الوقائع المستجدَّة التي لا يوجد فيها أجوبة العلماء مُعَدَّة. وأصحابُ المصطفى صلوات الله عليه ورضي الله عنهم لم يجدوا في الكتاب والسنة إلا نصوصاً معدودةً، وأحكاماً محصورة محدودة، ثم حكموا في كل واقعة عنَّت، ولم يجاوزوا وضع الشرع، ولا تعدَّوْا حدودَه؛ فعلَّمونا أن أحكام الله تعالى لا تتناهى في الوقائع، وهي مع انتفاء النهاية عنها صادرةٌ عن قواعد مضبوطة.

أن  لم يجد الناس قُدوةً وأُسوة وإماما يجمع شتات الرأي، ويُرَدُّوا إلى الشرع المجرد من غير داعٍ وحادٍ، فإن كانوا كذلك، فموجب الشرع والحالة هذه في فروض الكفايات أن يَحْرَجَ المكلَّفون القادرون لو عطَّلوا فرضاً واحداً، ولو أقامه من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين؛ فلا يثبت لبعض المكلفين توجيه الطلب على آخرين، فإنهم ليسوا منقسمين إلى داعٍ ومدعوّ، وحادٍ ومحدوّ، وليس الفرض متعيَّناً على كل مكلف، فلا يعقل تثبيت التكليف في فروض الكفايات مع عدم الوالي إلا كذلك.

 فلنضرب في ذلك الجهادُ مثلاً، فنقول:
لو شغَر الزمان عن وال، تعين على المسلمين القيامُ بمجاهدة الجاحدين، وإذا قام به عُصَبٌ فيهم كفاية، سقط الفرض عن سائر المكلفين؛ فهذا إذا عدموا والياً. 

 فأما إذا وليهم إمام مطاع، فإنه يتولى جرَّ الجنود وعقدَ الألوية البنود، وإبرام الذِّمم والعهود، فلو ندب طائفةً إلى الجهاد، تعيَّن عليهم مبادرةُ الاستعداد، من غير تخاذل وتواكل واتئاد؛ ولم يكن لهم أن يقولوا: ليس ما نُدِبْنا إليه مُتَعَيَّناً علينا؛ فليقم به غيرُنا، فإنا قد أثبتنا أن المسلمين إذا نصبوا والياً يدبرهم في إصدارهم وإيرادهم تدبيرَ الآباء في أولادهم.

ولو ساغ مقابلة أوامره ونواهيه بما يوهي شأنَه ويوهنه، لما استتب له مقصد فيما يذرُه ويأتيه، ولأفضى إلى عُسْرٍ يتعذر عليه تلافيه.

ولو وكَلَ كلُّ مندوبٍ ارتسامَ مراسم الوالي المنصوب إلى غيره، لما استقرت للإمام طاعةٌ في ساعة.

فإذا رأى الوالي المنصوب رأيا من هذا الفن كان متَّبعاً، ولم تجد الرعايا دون اتباعه محيدا ومتسعاً

فإذا ساس المسلمين والٍ، وصَفِرت يدُه عن عُدة ومال، فله أن يُعَيِّن بعضَ الموسرين لبذل ما تقتضيه ضرورةُ الحال، لا محالة، كما يندُب من يراه أهلاً للانتداب. فلا ينبغي أن يستبعد المرءُ حكمَ الإمام في فَلْسه مع نفوذ حكمه في روحه ونفسه. 
   


ليس للإمام في شيء من مجاري الأحكام أن يتهجم ويتحكَّم فعلَ من يتشهَّى ويتمنى، ولكنه يبني أمورَه كلَّها، دِقَّها وجِلَّها، عقدَها وحلَّها، على وجه الرأي والصواب في كل باب؛ فلا يندب قوماً للجهاد إلا إذا رأى تعيُّنَهم منهجَ الرشاد ومسلكَ السداد، 

0 التعليقات: