01‏/09‏/2014

غياث الأمم في التياث الظلم 16

غياث الأمم في التياث الظلم 16
منصب الإمام يقتضي القيامَ بالنظر العام في حقوق الرعايا والمستخلَفين عليهم على ممر الأيام.

فما تولاه الإمام بنفسه فهو الأصل، وما استخلف فيه كافياً مستقلاً دارياً متيقظاً فيما نيط به واعياً، فالاستخلافُ في تفاصيل الأعمال سائغ بلا خلاف. ثم ما يستخلف فيه ينقسم إلى أمر خاص يحتوي على الغرض منه مراسم يُبَيِّنُها ومعالمُ يُعَيِّنُها، فيعقد الإمام بمضمونها منشوراً، ويتخذه المُوَلَّى دُسْتُوراً.

وإلى أمرٍ عامٍّ منتشرِ القضايا على الرعايا، لا يُضبط مقصودُه برسوم، ولا منشور منظوم.  
  
420 ـ فأما الأمرُ الخاص، فهو كجباية الصدقات فمن ولاه الإمام صنفا من هذه الأصناف، فينبغي أن يكون المُوَلَّى مستجمعاً خصلتين:     
إحداهما: الصيانة والديانة.     
والثانية: الشهامة، والكفايةُ اللائقةُ بما يتولاه ويتعاطاه، ولا يشترط أن يكون مجتهداً بالغاً مبلغ المفتين، ولكن الإمام يرسُم له مقادير النُّصُب والزكوات، وتفاصيلَ الأسنان على أبلغ وجه في البيان؛ فيمضي المولَّى قُدُماً، ويتَّخذ المراسمَ قدوة وأَمَماً، ولو كان المنصوب لما ذكرناه عبداً مملوكاً ساغ؛ فإن امثال هذه الأعمال ليست ولايةً على الكمال.

421 ـ ومن هذا القبيل تفويض جرِّ الأجناد إلى بلاد الكفر والعناد، فليجتمع فيمن يقلَّدُ الأمرَ الثقةُ، والصرامةُ، والشهامةُ؛ وليكن ممن حنكته التجارب، وهذَّبَتْه المذاهب
ويكفي فيها الثقةُ، واستجماعُ ما أشرنا إليه من البصائر، وعمدتُها الشجاعة والاستطاعة، والتيقظ اللائق بهذه الشأن؛ فالرأي قبل شجاعة الشجعان.

422 ـ فأما الأمر الذي يعم، ولا ينضبط مقصوده، فهو كالقضاء والجلوسِ لفصل الحكومات بين الخصماءِ، وقد يرتبط به أمورُ الأموالِ والأبضاعِ والدماءِ، وإقامة العقوبات على ذوي الاعتداء، والإنصاف والانتصاف، والمنع من سلوك مسالك الاعتساف، وهذا أعظم الأشغال والأعمال، فيقتضي هذا المنصبُ خِلالاً في الكمال سيأتي شرحنا عليها.
منها: الدين، والثقةُ، والتلفُّعُ بجلباب الديانة، والتشبُّث بأسباب الأمانة والصيانة، والعقل الراجح الثابت، والرأي المستدُّ الصائب، والحريةُ والسمعُ والبصرُ.

423 ـ والذي أراه القطعُ باشتراط الاجتهاد، في القضاة  وسأوضح فيه منهجَ السَّداد يتقرر بتقديم أصلٍ عظيم الغَنَاء في أحكام الاجتهاد، فأقول وعلى طَوْل الله وتيسيره الاعتماد، وبفضله الاعتضاد: على المقلد ضربٌ من النظر في تعيين مُقَلَّده، وليس له أن يقلد من شاء من المفتين مع تباين المذاهب، وتباعد الآراء والمطالب، وكيف يسوغ التخيير بين الأخذ بمذهب التحريم ومذهب التحليل؟ ولا يُتَصَوَّر المصيرُ إلى هذه السبيل، مع تفاوت مناصب المفتين وأهل التحصيل. وإذا كان يتعين عليه ذلك، فليتمهل النظرُ هنالك.
424 ـ وأنا أقول بعد تقديم ذلك:
من انتحل مذهبَ أبي حنيفة رحمه الله من طبقات المقلِّدين؛ واتفق في عصره إمامٌ لا يبارَى، ومجتهدٌ لا يُضاهَى، ولا يُوازَى، وكان يُعزى هذا المجتهدُ إلى مذهب الشافعي رحمه الله فلا يجوز أن يكون مثلُ هذا الذي ذكرناه متبعاً مذهب إمام واحد في جميع مسائل الشريعة، موافقاً رأيَه ومسلكه؛ فإن الظنون تختلف طرقُها وتتفاوت سُبُلُها وتتردد أنحاؤها على حسب اختلاف القرائح والطباع، وليس بالإجماع في معظم المسائل امتناع، فإن أصول المذاهب تؤخذ من مأخذ القطع، وهي التي تصدرُ منها تفاريع المسائل، فقد يفرض الوفاق في معظم المسائل من هذه الجهة.

425 ـ فإذا اشتملت الأيام على مثل هذا الإِمامِ تعين على كافة المقلدين اتباعُه، والسببُ فيه أنه بالإضافة إلى الماضين المنقرضين في حكم الناخلِ للمذاهب والسابرِ لتباين المطالب، وسبرُه لها أثبت من نظر المقلِّد.
   
431 ـ ولئن عدَّ الفقهاء ذلك من المظنونات، فلستُ أعرفُ خلافاً بين المسلمين أن الشرطَ أن يكون المستنابُ لفصل الخصومات والحكومات فطناً متميزاً عن رعاع الناس، معدوداً من الأكياس، ولا بد من أن يفهمَ الواقعة المرفوعةَ إليه على حقيقتها، ويتفطَّنَ لموقعِ الإعضال، وموضعِ السؤال، ومحلِّ الإشكال منها، ثم يتخيَّرُ مفتياً، ويعتقد أن قولَه في حقِّه بمثابة قول الرسول في حق الذين عاصروه، فيتخذُه قدوة وأسوة، فأما إذا لم يفهم الواقعة، فكيف يفرض نفوذ حكمه فيها، وليس في عالَم الله أخزى من متصدٍّ للحكم لو أراد أن يصف ما حكم به، لم يستطعه.    

432 ـ ومما يقضي اللبيبُ العجبَ منه، انتصابُ غرٍّ للقضاء، لا يقف على الواقعة التي فيها القضية، ولا يفهمُ العربية، ويُصغي إلى صكوك وقَبالات مُتَضَمَّنُها ألفاظٌ عويصة، لا يحيط بفحواها ومقتضاها إلا مبرَّزٌ تُثنى عليه الخناصر، ويعدُّ من المرموقين والأكابر في اللغة العربية؛ إذ منها صدَرُ الألفاظ في أصول الفقه المشتمل على الخصوص والعموم والاستثناءات، وسائر القضايا والموجَبات في فن الفقه؛ فإليه الرجوع في مأخذ الأحكام والنقض والإبرام.
433 ـ فهذا مقدارُ غرضي اللائق بهذا المجموع في ذكر صفات الولاة والقضاة.
وفي آدب القضاة، والدعاوي والبينات، ومراتب الشهادات كتبٌ معروفة في الفقه؛ فليتَّبِعْها من ينتحيها، وليطلبها من يدْريها.     


وقد نجز بحمد الله، ومَنِّه، وحسن تأييده، جوامعُ الكلام فيما يناط بالأئمة من أحكام الأمة، وقد انتهى الكلامُ بعد نجاز هذه الأبواب إلى المغزى واللباب، فأحسنوا الإصاخة معشر الطلاب إلى تجديد العهد بغرض الكتاب. 

0 التعليقات: