02‏/05‏/2015

قواعد الأحكام في مصالح الأنام 8

قواعد الأحكام في مصالح الأنام 8



واعلم أن المقصود لفرض الكفاية تحصيل المصالح ودرء المفاسد دون ابتلاء الأعيان
بتكليفه، والمقصود بتكليف الأعيان حصول المصلحة لكل واحد من المكلفين على حدته، لتظهر طاعته أو معصيته، فلذلك لا يسقط فرض العين إلا بفعل المكلف به، ويسقط فرض الكفاية بفعل القائمين به دون من كلف به في ابتداء الأمر. أما سقوطه عن فاعليه فلأنهم قاموا بتحصيل مصلحته، وأما سقوطه عن الباقين فلتعذر التكليف به والتكليف تارة يسقط بالامتثال، وتارة يسقط بتعذر الامتثال

الضرب الثاني من المصالح: ما يثاب على فعله و لا يعاقب على تركه

الضرب الثاني من المصالح: ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه
وهو ضربان: أحدهما سنة على الكفاية كالأذان والإقامة، وتسليم بعض الجماعة على من مروا به من أهل الإسلام، وتشميت العاطس، وما يفعل بالأموات مما ندب إليه.

والثاني سنة على الأعيان كالرواتب، وصيام الأيام الفاضلة، وصلاة العيدين والكسوفين، والتهجد وعيادة المرضى، والاعتكاف والتطوع بالنسكين، والطواف من غير نسك، والصدقات المندوبات، ومصالح هذا دون مصالح الواجب.

والمفاسد ضربان: أحدهما ما يعاقب على فعله ويؤجر على تركه إذا نوى بتركه القربة كالتعرض للدماء والأبضاع والأعراض والأموال. والثاني: ما لا يعاقب على فعله وتفوته مصلحة بتركه كالصلاة في الأوقات المكروهات، وغمس اليدين في الإناء قبل غسلهما لمن قام من المنام، وترك السنن المشروعات في الصلوات.

فصل: في انقسام المصالح و المفاسد إلى الوسائل و المقاصد

الواجبات والمندوبات ضربان: أحدهما مقاصد، والثاني وسائل،

وكذلك المكروهات والمحرمات ضربان: أحدهما مقاصد والثاني: وسائل،

 وللوسائل أحكام المقاصد، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل، ثم تترتب الوسائل بترتب المصالح والمفاسد،

فصل: في بيان رتب المصالح

وقد سئل عليه السلام أي الأعمال أفضل؟ فقال: "إيمان بالله", قيل: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله", قيل: ثم أي؟ قال: "حج مبرور". جعل الإيمان أفضل الأعمال لجلبه لأحسن المصالح، ودرئه لأقبح المفاسد، مع شرفه في نفسه وشرف متعلقه، ومصالحه ضربان: أحدهما عاجلة وهي إجراء أحكام الإسلام، وصيانة 

فصل: في بيان رتب المفاسد
وهي ضربان: ضرب حرم الله قربانه، وضرب كره الله إتيانه، والمفاسد ما حرم الله قربانه رتبتان إحداهما: رتبة الكبائر وهي منقسمة إلى الكبير والأكبر والمتوسط بينهما، فالأكبر أعظم الكبائر مفسدة. وكذلك الأنقص فالأنقص، ولا تزال مفاسد الكبائر تتناقص إلى أن تنتهي إلى مفسدة لو نقصت لوقعت في أعظم رتب مفاسد الصغائر وهي الرتبة الثانية. ثم لا تزال مفاسد الصغائر تتناقص إلى أن تنتهي إلى مفسدة لو فاتت لانتهت إلى أعلى رتب مفاسد المكروهات وهي الضرب الثاني من رتب المفاسد، ولا تزال تتناقص مفاسد المكروهات إلى أن تنتهي إلى حد لو زال لوقعت في المباح. وقد أبان صلى الله عليه وسلم من تفاوت الكبائر ثلاث مراتب، إذ سئل عليه السلام أي الذنوب أكبر؟ فقال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك"، قيل ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" قيل. ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك" جعل الكفر أكبر الكبائر مع قبحه في نفسه، لجلبه لأقبح المفاسد ودرئه لأحسن المصالح,

فإنه يجلب مفاسد الكفر ويدرأ مصالح الإيمان.

 ومفاسده ضربان: أحدهما عاجل وهو إراقة الدماء وسلب الأموال وإرقاق الحرم والأطفال.
 الضرب الثاني: آجل وهو خلود النيران مع سخط الديان. وأما درؤه لأحسن المصالح فإنه يدرأ في الدنيا عن المشركين التوحيد والإيمان وعن الإسلام والأمن من القتل والسبي واغتنام الأموال، ويدرأ في الآخرة نعيم الجنان ورضا الرحمن. وجعل قتل الأولاد تاليا لاتخاذ الأنداد، لما فيه من الإفساد وقطع الأرحام والخروج من حيز العدالة إلى حيز الفسوق والعصيان، مع التعرض لعقاب الآخرة، وتغريم الدية والكفارة، والانعزال عن الولاية التي تشترط فيها العدالة وجعل الزنا بحليلة جاره تلو قتل الأولاد لما في ذلك من مفاسد الزنا كاختلاف المياه واشتباه الأنساب وحصول العار، وأذية الجار، والتعرض لحد الدنيا أو لعقاب الآخرة، والانتقال من حيز العدالة إلى حيز الفسوق والعصيان والانعزال عن جميع الولايات.


فصل: تنقسم المصالح والمفاسد إلى نفيس وخسيس،
 ودقيق وجل، وكثر وقل، وجلي وخفي، وآجل أخروي وعاجل دنيوي، والدنيوي ينقسم إلى متوقع وواقع، ومختلف فيه ومتفق عليه، وكذلك ترجيح بعض المصالح على بعض، وترجيح بعض المصالح على بعض، وترجيح بعض المفاسد على بعض،


وقد جاءت الشريعة بمدح السرعة في أمور كالذبح والنحر وضرب الرقاب في القصاص، لما في السرعة في ذلك من تهوين الموت، وقد كتب الله الإحسان على كل شيء، وأمر بإحسان القتلة والذبحة، وكذلك أيضا قصاص الأطراف تحمد فيه السرعة. ولو صيل على مسلم في نفس أو بضع أو مال بحيث لو اقتصرنا في الدفع عنه لتحققت المفسدة، فإن السرعة في هذا وأمثاله واجب لا يسع تركها. وكذلك السرعة في القتال ومكافحة الأبطال، وقد مدح الله المسارعة في الخيرات وأثنى على المسارعين فيها، وقال موسى عليه السلام {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}. وقد جعل لمن قتل الوزغ بضربة واحدة مائة حسنة، ولمن قتله بضربتين سبعين حسنة، لما في الضربة الواحدة من المسارعة إلى إزهاق روحه ودفع ضرره وإحسان قتلته.

والذي يسميه الجهلة البطلة سياسة هو فعل المفاسد الراجحة أو ترك المصالح الراجحة على المفاسد. ففي تضمين المكوس والخمور والأبضاع مصالح مرجوحة مغمورة بمفاسد الدنيا والآخرة: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}، وبمثل هذا يفتنون الأشقياء أنفسهم بإيثار المفاسد الراجحة على المصالح قضاء للذات الأفراح العاجلة، ويتركون المصالح الراجحة للذات خسيسة أو أفراح دنيئة، ولا يبالون بما رتب عليها من المفاسد العاجلة أو الآجلة. وذلك كشرب الخمور والأنبذة للذة إطرابها، والزنا أو اللواط، وأذية الأعداء المحرمة، وقتل من أغضبهم وسب من غاضبهم، وغصب الأموال والتكبر والتجبر، وكذلك يهربون من الآلام والغموم العاجلة التي أمرنا بتحملها لما في تحملها من المصالح العاجلة، ولا يبالون بما يلتزمون من تحمل أعظم المفسدتين تحصيلا للذات أدناهما، وكذلك يتركون أعظم المصلحتين تحصيلا للذات أدناهما. أسكرتهم اللذات والشهوات فنسوا الممات وما بعده من الآفات فويل لمن ترك سياسة الرحمن، واتبع سياسة الشيطان، وارتكب الفسوق والعصيان، أولئك أهل البغي والضلال.

0 التعليقات: