روح السياسة 4
فالسياسة – بحسب ما توصلنا إليه من المعرفة فى
الوقت الحاضر – هى التوفيق بين السير والحركة وبين مقتضيات الوقت معقولة كانت أم
غير معقولة .
إن
العقل يهيئ بالتدريج العوامل التى تتحول بها نفوسنا ، غير أن تأثيره المباشر ضعيف
جدا ، والأمور التى تتحول به بغتة قليلة إلى الغاية .
الإقناع
ما للتكرار من الشأن العظيم ، ولم يباغ نابليون بقوله إن التكرار مظهر البلاغة
الأساسى ، لأنه من أشد عوامل الإقناع تأثيرا ، ولا يسلم الناس بالآراء لصحتها ،
بل
يسلمون بها عندما تستولى – بفعل التكرار والعدوى الفكرية – على دائرة اللاشعور التى
هى علة السير فينا .
والانسان لا يستطيع أن يتصور الأمور المجردة كما
يجب إلا إذا قاسها على ما أحسه بنفسه من الأمور قبلا .
يخضع ذانك العالمان لعوامل متباينة تباين الآمال التى تبذرها فى النفوس ،
فالأول وهو عالم الماضى لا نزال نعانى عزائمه على رغم موته ، والثانى هو عالم
الحال حافل بالأسرار لما يحمل بين ثناياه من مستقبل مجهول .
وهكذا نرى قوة العدد تحل الآن محل الذكاء أكثر
منها فيما سلف ، إن الحياة السياسية عبارة عن توفيق المرء بين مشاعره وبين البيئة
التى تكتنفه ،
يتصف هذا الوقت بحلول سلطان العوامل الاقتصادية فيه محل سلطان
الملوك والقوانين ، ثم يتبادل المنافع بين الشعوب التى كان بعضها منفصلا عن البعض
الآخر .
وفى
عالم السياسة الحاضر لا يبحث عن الأحسن بل عن السهل ، والتاريخ يثبت أن تأثيرنا فى
المجتمع ضئيل إلى الغاية ، وأن الانقلابات الأساسية لا تتم إلا بفعل الزمان ، وأن
الأنظمة ليست سوى طرف خارجى لروح باطنية ، وانها تشبه اللباس الذى يتاسب جسما دون
أن يقدر على تكوينه ، وأن الذى يلائم شعبا قد لا يلائم شعبا آخر .
لا
ننكر شأن النظم والرجال فى سير الحوادث ، فكل صفحة من صفحات التاريخ تدل على عظمته
، وإنما يبالغ التاريخ فى تقدبر أهمية ذلك الشأن غير ملاحظ أن النظم والرجال هى فى
الغالب عبارة عن توسع ماض طويل ، وانها إذا لم تظهر فى الوقت المناسب تكون ذا عمل
مخرب كعمل الفاتحين .
0 التعليقات:
إرسال تعليق