روح السياسة 7
العوامل الفكرية فى عالم السياسة
والقول أن القوانين تصلح
المجتمع هو من أعظم الأغلاط التى سجلها التاريخ .
تكوين أحد الحقوق لا يتم إلا
إذا اجتاز ثلاث مراحل : وهى العادة والقضاء والقانون ، لا تكون مداخلة المشترع
مفيدة إلا فى المرحلة التالثة أعنى مرحلة القانون ، فلو دققنا فى قانوننا المدنى –
وقد زعم الكثيرون أنه من مبتكرات مجلس الفقهاء الذى كان يرأسه نابليون – لرأيناه
عبارة عن عادات فرنسية جمعت على شكل قانون ، وأنه الطور الأخير لانتحاء بلادنا نحو
الوحدة القضائية ، أى أنه بالحقيقة قانون الحال بل قانون الماضى .
والعادة تنشأ عن مقتضيات
الاجتماع اليومية صناعية كانت أم اقتصادية ، والقضاء يعينها والقانون يؤيدها ، وما
يويده القانون فهو طور الحال الاجتماعى .
ولولا القضاء الذى يسير مع
تقلبات العادة لأصبح القانون ظالما فى نهاية الأمر ، فالقضاء على الخصوص هو الذى يحرر
زوجة النوتى الذى انقطع خبره فى سياحة بعيدة من الترمل الأبدى الذى يأمر به
القانون عندما يتعذر عليها إبراز وثيقة خطية دالة على وفاة زوجها .
بمثل تلك الأمور تتضح كيفية
تكوين القوانين ، ويتجلى الشأن الحقيقى للمشترع ، فعلى المشترع أن يقتصر على تأييد
القوانين بعد أن تظهرها العادة ويعين القضاء حدودها ، وكل قانون يصدر فجأة من غير
أن يجتاز هاتين المرحلتين محكوم عليه بالإخفاق .
ولنورد مجلسنا الشورى – الذى
يزيد كل يوم سلطة أكثر من ذى قبل – مثالا على حقوق جديدة تتكون الآن بفعل العادة
وتأثير القضاء ، كان هذا المجلس فيما مضى عبارة عن هيئة أدارية ذات واجبات لا
أهمية كبيرة لها ، فصار بالتدريج ذا سلطة تنحنى أمامها جميع السلطات ، إذ أصبح
يأتى بأحكام قاطعة غير تابعة للاستئناف فى أمور مختلفة كنقض قرارات الولاة وأوامر
الوزارة وإعادة ضباط البحرية المعزولين إلى وظائفهم وعزل المأمورين المعينين .
وما هو مصدر تلك السلطة ؟
مصدرها
العادات التى هى بنت الضرورة ، واتى عين القضاء حدودها ، وما تخيل مجلس الشورى أن
يتطاول على بقية السلطات ، وإنما الجمهور هو الذى ألجأه إلى ذلك لرغبته فى تقييد
أمواء الوزراء وسائر رجال الإدارة ، ولاشتياقه إلى إيجاد قوة تحميه ضد الفوضى
العامة .
وفضلا عن ذلك
تتدرج جميع النظم الديمقراطية إلى تكوين سلطات عليا لتكون عنوانا للاستقلال
والثبات كمحكمة الولايات المتحدة العليا التى يظهر أن مجلسنا الشورى سيكون له ما
لها من الشأن بعد قليل من الزمن ، ومما يبرر ما قلناه هنا فى تكوين الحقوق وظهور
تلك السلطات ظهورا غريزيا هو أنه مع أنها لا تستند فى قوتها إلى نص قانونى ولم
يدعمها نظام تكتسب به ما لا يتيسر للقوانين المحررة الصريحة من نفوذ وسلطان .
ومثل ذلك يشاهد فى انجلترا أيضا
، ففى هذه المملكة لا تستند مبادئ الحكم الأساسية إلى مواد قانونية ، وليس فيها
قانون يأمر بقسمة البرلمان إلى مجلسين ، وبتفويض سن القوانين إليهما ويجعل الملك
يحكم البلاد بواسطة وزراء مسئوليين ... الخ ، وهى مع أنها عاطلة من دستور مكتوب تعد
عنوان الحكومات الدستورية ، وقد صارت بالتدريج جمهورية يرأسها ملك ، وإذا استثنينا
جمهورية الولايات المتحدة رأينا جميع جمهوريات العالم لا تدانيها حرية .
نسير منذ قرون كثيرة حسب دستور
غير مكتوب ، أجل عندنا أنظمة مكتوبة خالدة كدستور ( ماجنا كارتا ) ولكننا لو نظرنا
إلى نا فى بالدنا من حرية وعادات دستورية لرأيناها لم تقترن حتى الآن باستحسان خطى
قاطع من قبل الملك أو مجلس اللوردات أو مجلس النواب ، فنحن نعيش تحت سلطان العرف
والعادة والمواثيق التى فقمت شيئا فشيئا فأصبحت محترمة لدى الجميع على مر الزمن .
كل شئ فى انجلترا يناقض مبادئنا
فى النظام والعقل والقياس والمنطق ، وتتآلف حقوقها من عناصر ومقومات هى غاية فى
التباين ، قال الوزير ( شامبرلن ) فى البرلمان الانجليزى : " أن أعظم مزية
تتصف بها أنظمتنا هو أنها غير منطقية " فأكرم به من تصريح بعيد الغور ، لأن
القوانين إذا استغنت عن قواعد المنطق فلأنها وليدة مشاعر ناشئة عن ضرورات مستقلة
عن العقل .
ومن سوء الحظ بقاؤنا بعيدين من
مثل هذه الأفكار غير منتفعين بالتجارب ، أفلم يحن الوقت الذى نعدل فيه عن الاشتراع
والتنظيم والإصلاح باسم ذلك العقل الأعمى الذى لايعرف مقتضيات الاقتصاد وكل ضرورة
؟ فالحقوق لا تصنع وإنما هى تصنع نفسها .
القانون عنوان مؤقت لحقوق تتجدد بلا انقطاع ،
فالحياة الاجتماعية لا ينتظم أمرها بمراسيم يقترحها الخياليون، بل بتأثير مقتضيات
الاقتصاد وأخلاق الشعوب .
التوفيق فى القوانين والجمع بين
عادات أثبت الاستعمال أمرها ، فالقوانين التى يقال إنها حديثة لا تفعل بالحقيقة
سوى تأييدها عادات وجدت مقدما .
نرى أهم الحوادث التاريخية صدرت
عن علل بعيدة صغيرة مرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا ، فمن تجمع العلل الصغيرة تخرج
أكبر النتائج ،
ومن هذه العوامل المعدودة بالألوف والخافية لصغرها تتجه نحو جهة
واحدة حسب نواميس دقيقة كالتى تجعل أحد الاجرام يسير على خط معين ، أو كالتى تتحول
بها ثمرة البلوط إلى سنديانة ،
وبعد ان يقع انتحاء الععوامل الصغيرة اليومية على
هذا الوجه تتولد منها مجار ضعيفة سهل تحويلها فى بدء الأمر صعب اعتراضها عندما
تزيد قوتها فى آخره ، وحينئذ تنكسر الحواجز الاجتماعية ، وينقلب تطور الشعب إلى
ثورة .
0 التعليقات:
إرسال تعليق