12‏/05‏/2016

روح السياسة 11

روح السياسة 11


   ينضم إلى تلك الحروب بتقدم الحضارة حروب اقتصادية ليست أقل منها قتلا للنفوس .

   لقد أصدرت أوربا منتجاتها إلى الشرق زمنا طويلا ، والآن نرى الحالة تتبدل بالتدريج ، فبعد أن كان الشرق بلاد استهلاك شرع يكون مركز إنتاج واسع ،

    وهو الذى يستولى على أسواقنا التجارية بمنجاته الصناعية والزراعية التى ينتجها عمال يكتفون لحاجتهم القليلة بأجور هى دون أجور العمال الأوربيين كثيرا.

   ولا ننكرأن الصراع بين الشرق والغرب فى الوقت الحاضر يقتصر على بعض المنتجات الصناعية والزراعية ، ولكن الذى نقوله هو أن مدى هذا الصراع سيمتد سريعا ،

 فأبناء الهند واليابان والصين يهددوننا بمزاحمتهم لنا فى جميع الأسواق التجارية ، وهم يصنعون اليوم – مستعينين بمثل آلاتنا – ما كانت أوربا تحتكره صناعته .

   وعندما بحثت فى هذه النظريات منذ خمس وعشرين سنة قالت صحف العالم ولا سيما جرائد الهند الانجليزية – مع اعترافها بصحة آرائى – إن عمال الشرق لا يلبثون أن يكونوا ذوى حاجات تحملهم على الاقتداء بعمال الغرب فى مطالبهم ، وقدةنسيت تلك الصحف كعادتها أن خلق أكثر تلك الشعوب النفسى ثابت ثباتا لا تحول فيه ، فمع أن الصينين شرعوا فى الهجرة إلى أمريكا منذ وقت بعيد لم تغير حياة النفائس والترف الامريكية طراز معيشة أحد منهم .    

 إن حضارتنا لا تلائم مزاج الشعوب الشرقية النفسى فلا ثؤثر فيه .

   ولا تظنن أن أوربا تنعزل بإقامتها حواجز كثيفة من المكوس الجمركية عن بقية العالم ، فتقدر على التخلص من مزاحمة الشرق ، فذلك التخلص لا يتسير لها إلا بانتاجها ما تحتاج إليه من الغذاء والدواء يعوزها لتكاثر سكانها كما هو معلوم .

   ولقد أخبر علماء الاقتصاد – وقد شاهدوا أكثر دول أوربا يعدل عن إنتاج ما يحتاج إليه من الغذاء – بأن انعزال أوربا يؤدى إلى جوعها ومن الطبيعى أن اخوف من الموت جوعا يدفع تلك الدول إلى خفض المكوس الجمركية ولكن بأى شئ تدفع ثمن المنتجات الغذائية فى زمن تعجز فيه عن إصدار مصنوعاتها ؟

  ولو كان النزاع بين الشرق والغرب عبارة عن نزاع عقلى بين الطبقات العليا لما تطرق إلينا شك فى نتيجته ، ولكن ما العمل والنزاع المذكور نزاع اقتصادى بين الطبقات الوسطى المتساوية فى مزاجها العقلى والمتفاوتة فى احتياجاتها ، وهل من ريب فى أن النجاح سيكون حليف الجهة ذات الاحتياجات الضعيفة ؟

  على أن تلك الملاحظات تخص المستقبل البعيد ، وما عندنا من المشاكل الحاضرة يجعلنا نترك أمر البحث فى المشاكل المستقبلة .

  لقد رأيت فى يوم شتاء شيخا كبيرا لطيف المنظر حاد النظر يدخل بيتى وبيده نسخة من الطبعة التاسعة لكتابى " روح التربية " فابتدرنى قائلا :

   " أجدر بفرنسا ألا تواظب على برنامجها الحاضر فى التربية ، فالجامعات ستقودها إلى أسفل درجات الانحطاط ، إننى عضو فى مجلس الشيوخ وفى أكاديميا العلوم وأكاديميا الطب وأستاذ سابق فى الجماعة ، أى أننى كما ترى ذو مناصب كثيرة يمكننى أن ألفت فيها النظر إلى المبادئ والأفكار التى عرضتها فى كتابك ، فأطلب إليك أن تجهزنى بملاحظات ومذكرات ومعلومات أستعين بها على وضع خطبة مقنعة فى مجلس الشيوخ " . 

   يجب لتغيير طرقنا التعليمية تغيير نفسية رؤساء جامعاتنا أولا ثم نفسية أساتذتنا وأفكار الأبوين والطلاب ثانيا ، وقد عدل ذلك العضو الشهير عن خطبته عندما تبينت له هذه الحقائق .

    ولا أحد يجهل أن الرجل الذى يود أن ينجح فى معركة الحياة يجب عليه أن يجدد بنفسه تعليمه ، وأن يخصص القسم الثانى من عمره لتبديد ما اكتسبه فى القسم الأول من أوهام وأضاليل وطرق فى التفكير .
   طرق التعليم لا برا
مجها هى التى يجب تغييرها ، وعيب تربيتنا عدم تطورها بحسب الأحوال ، قال الوزير السابق المسيو ( هانوتو ) : " تقوم التربية الفرنسية على مزاولة الكتب ، ففى مدارسنا يبلغ الطلاب الخامسة والعشرين من عمرهم ، تبلى على مقاعد الدراسة سراويلهم وهم لا يعرفون غير تكرير ما استظهروه من الدروس التى لا تلائم مقتضيات الحياة ، وهكذا تنقضى أعمار صفوة الأمة فى حفظ المصنفات عن ظهر قلب وتمحيص الصيغ المبتذلة .

   لا يسعى أساتذتنا فى منح الطلاب صفات خلقية تقوم عليها قيمة الرجل الحقيقى فى معترك الحياة .

  عبارة من كتاب المسيو ( شابى ) الذى سماه " الهند البريطانية " لبيان الفرق بين التعليم العقلى والأخلاقى عند الانجليز ، وإليكها : " لا يبالى الهندوس بغير أمور الذهن والقريحة ، واما الانجليز فيعبأون على الخصوص بالخلق الذى تقاس به قيمة الرجل الأدبية ، وبالخلق يقصدون ثبات الجأش واتؤدة عند العزم ، والسرعة عند السير ، والعناد عند المقاومة ، والحزم عند الخطر ، ومعرفة الواجب نحو الفرد والأمة ، ولا يعنى ذلك أنهم لا ينظرون إلى أمور الذكاء والخطب البليغة ، والمقالات الفصيحة ، وإنما تجئ عندهم فى الدرجة الثانية .

   أشير على القارئ الذى يود أن يعرف الطرق والأساليب التى ترسخ بها المسائل فى النفس بأن يزور معاهد التعليم فى ألمانيا ، ويقرأ كتاب ( بيز ) الذى بحث فيه نظام التعلم فى أمريكا .


   تقوم التربية والتعليم فى أمريكا على مساعى الأفراد ، وفيها يتسع نظام التعليم حسب عمر الطالب ، وللتجارب العملية المقام الأعلى فى معارفها وفى آدابها التى تدرس بواسطة الرسوم والصور ، وفيها يدرب الطلاب على السير الطليق كأنه ليس فى العالم غيرهم ، وفيها يتلقون العلوم العملية والنظرية مستعينين بالاجهزة والآلات المادية التى يستنبطون بها أسرار الحوادث ونواميسها .

   وما يسود التعليم الأمريكى يسود التعليم الانجليزى " ليست غاية التعليم الرئيسية اكتساب عدد من المسائل ، بل تعويد الطالب أمر البحث والتنقيب الذى قد ينفعه فى تهذيب نفسه تهذيبا منظما " .
   تبديل روح الأساتذة ثم روح الأبوين فروح التلامذة ، والذى يجب تغييره هو روح الأساتذة على الخصوص .

   ولماذا يجب تبديل نفسية الأبوين ونفسية الطلاب بعد تبديل نفسية الأساتذة ؟     لأنهم لا يطالبون الأساتذة إلا بتهيئة الفتيان لاجتياز الامتحان ، وأسهل طريقة عندهم للنجاح فى الامتحان هى حفظ سلسلة من الكتب الموجزة عن ظهر القلب ، وإن كانت الكتب الموجزة لا تمنح الفتيان سوى معارف مؤقتة غير ثابتة .

   والأساتذة القليلون الذين يرجحون طرق التعليم التجريبية المغذية للروح يقصون عن مهنة التدريس .

   التدريس ليس بالاطلاع بل بتعليم الطالب كيف يتطلع ، وليس بالاستظهار بل يجعل التلميذ قادرا على الاختيار والتفكير والعزم والسير .

   ولا تغير الحوادث شيئا من عقول أساتذتا ، فهم لا يرون فيها غير الحيف والجور ، وهى لا تؤدى إلا إلى مقتهم المجتمع الحاضر الذى يعدون أنفسهم من ضحاياه .

     التربية هى تحويل الشعورى إلى غير شعورى ،


   العلم والصناعة ساقا العالم إلى طورأصبح فيه لبعض الصفات الخلقية شأن كبير فى حياة الأمم ، وأن الذين سيقبضون على زمام العلم والصناعة والتجارة هم الرجال المتصفون بملكة الاستنباط والاختبار وقوة الإرادة وصحة التمييز وضبط النفس ، وهذه صفات لا تؤدى طرقنا التهذيبية الرسمية إلى تزييننا بها .    

0 التعليقات: