23‏/12‏/2015

وثيقة المدينة 9

وثيقة المدينة 9
الفصل الثالث: البعد الأمني
المبحث الأول: ضمان الأمن لطوائف المجتمع

عملت صحيفة المدينة لتغيير القانون الذي كان سائدا قبل كتابتها، فعملت على محاربة البغي والظلم، وحرم الثأر،
وبيَّنت أن القتل (بالقود)، إلا أن يرضى ولي المقتول بالعقل،
 وبذلك لم يصبح الثأر أمرا يتحول إلى ثأر يجر ثأرا كما كانت الحال في القبيلة العربية من قبل،
جعلت «الصحيفة» جماعة المسلمين كلها متضامنة على الباغي، ولها وحدها حق الرعاية والتنفيذ،
حتى ولو تعارض ذلك مـع عـلاقة الأبوة والبنوة وحقوقـها
لأن النبي صلي الله عليه وسلم لم يشكل قوة منظمة كالشرطة لتعقب الجناة ومطاردتهم،
 وإنما خص في البندين: (13 و21) المؤمنين بتحمل المسئولية في الأخذ على يد البغاة والمعتدين والمفسدين،
 كما جاء في البند رقم (13)، و«أن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسـيعة ظلم
 أو إثما أو عدوانا أو فسادا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم»؛
وفي البند رقم (21): (وأنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول بالعقل
وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه )

منع البغي
فالبغي في البند (13) يقصد به الظلم والتعدي والتكبر
فالباغي أحد رجلين إما رجل بغى على جميع المسلمين أو بعضهم بنهب أموالهم وسفك دمائهم وهتك حرمتهم،
 فهذا قد جعل الله له حدودا مذكورة في كتابه العزيز. وإما رجل بغى على إمام من أئمة المسلمين بعد اجتماع كلمتهم على دخولهم تحت طاعته، سواء كانوا قليلا أو كثيرا فهذا تجب مقاتلته 
لقد أكد هـذا البند على مسئولية الأمة المدينية، كمجتمع سياسي قائم على السلم الأهلي، بما يعنيه من الوقوف في وجه الظلم والإثم والفتن السياسية التي تحصل بين أفراد هـذا المجتمع، فأيديهم جميعا عليه 
ولو كان ولد أحـدهم» وهذا يعد تطورا هـائلا في التاريخ البشرى حينما عدل الرسول صلي الله عليه وسلم 
) شعار العرب في جاهليتهم من «نصر الأخ ظالما أو مظلوما» إلى (نصره ظالما بردعه عن ظلمه فذلك نصره
فوحدة الأمة وتماسكها يتجلى في مواقفها من الجرائم المخلة بالأمن
لذا نجـد أن «الوثيقة» أكـدت على إبراز دور المؤمـنين في البند رقم (21) حيث ينص على أنه من «اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة... وأن المؤمنين عليه كافة....» أي أن من قتل بلا جناية كانت منه ولا جريرة توجب قتله فإن القاتل يقاد به ويقتل إلا إذا اختار أهل القتيل أخذ الدية بدل القصاص أو وقع منهم العفو 
فإن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغـيظ، حتى يؤثروا أن يقـتلوا القاتل  وأولياءه، وربما لم يرضوا بقتل القاتل، بل يقتلوا كثيرا من أصحاب القاتل كسيد القبيلة ومقدم الطائفة، فيكون القاتل قد اعتدى في الابتداء، وتعدى هـؤلاء في الاستيفاء كما كان يفعله أهل الجاهلية و.... وغيرهم، وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيما أشرف من المقتول فيفضي ذلك إلى أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل، وربما حالف هـؤلاء قوما واستعانوا بهم، وهؤلاء قوما، فيفضي إلى الفتن والعداوات العظيمة، وسبب ذلك خروجهم عن سنن العدل الذي هـو القصاص في القتلى وهو المساواة والمعادلة في القتلى؛ لأنه يحقن دم غير القاتل من أولياء الرجلين 

حق الحياة
لقد استطاعت «الوثيقة» القضاء على الفتن والعداوات وصيانة المجتمع المديني حينما قررت في البند رقم (21) أن القصاص نازل بالجميع، وأن القود من القاتل أمر لا مفر منه، وأن الحيلولة دون الجريمة أيا كان نوعها واجب، ولا يحل للمؤمنين إلا القيام على الجاني ولو كان ولد أحدهم «وهذا ضرب من إيجاب التكافل تشريعا لاستئصال شأفة الجريمة في المجتمع عملا على استقرار الأمن في الداخل ، وتثبيت لسيادة القانون الإسلامي الجديد الذي حرم قـتل النفس إلا بالحـق، فأصبح القتل من الكبائر،
قال تعالى:
) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ( 
 (النساء:93)
وبالتالي ألغى هـذا البند ذاك العرف الجاهلي الداعي للثأر، وحفظ الحياة
(البقرة:179) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ( 
 وحرم الاقتتال بين ذوي القاتل والمقتول؛



منع إيواء المجرمين

«(وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هـذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا أو يأويه، وأن من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل)
والمحدث كل من أتى حدا من حدود الله عز وجل فليس لأحد منعه من إقامة الحد عليه
  «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ» ﴿ صلي الله عليه وسلم قال 
وقال: (فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ) 
 لأن هـذه الجريمة تؤدي إلى اضطراب المجتمع، واختلاله والطمع في النجاة من العقوبة، وإذا كان المجتمع محتاجا إلى الطمأنينة في حالات السلم فإنه إليها في حالات الحرب أحوج.

منع الغدر

يقرر البند رقم (36 ب) (أنه لا ينحجز على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته إلا من ظلم وأن الله على أبر هـذا)
والفتك «ركوب ما هـم به من أمور ودعت إليه النفس»، ورجل فاتك: جريء، وفتك بالرجل فتكا انتهز منه غرة فقتله أو جرحه، وقيل: هـو القتل أو الجرح مجاهرة، والفتك أيضا: أن يأتي الرجل صاحبه وهو غار غافل حتى يشد عليه فيقتله، وإن لم يكن أعطاه أمانا قبل ذلك، وهو: الاغتيال: وهو أن يخـدع الرجل حتى يخرج به إلى موضع يخفي فيه أمره ثم يقتله 
قال صلي الله عليه وسلم :( لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به)
لأن دماء البشر أغلى من أن تهدر ظلما نتيجة إرادة ظالمة وقوى متغطرسة، فالقضاء وحده هـو الذي يقرر 
العقوبة المناسبة ضد الجاني، بحيث إنها لا تسري إلى الأقارب والعشيرة، 
كما قال تعـالى:( ولا تزر وازرة وزر أخري) الأنعام : 164

والذي لا يلتزم بهذا القيد يكون قد أهلك نفسه وأهل بيته وأصبح مهدور الدم إلا إذا كان مظلوما.. فالمدعى الحقيقي في القانون الإسلامي في قضايا القتل سواء كان اعتباطا عن بينة أو اغتيالا عن طريق الغدر أو حتى الجروح، ليس الحكومة بل أولياء المقتول، فهم الذين يقبلون العفو أو الدية بدلا عن القصاص، فالقرار الأول والأخير بيد ولي المقتول،
قال تعالي: ( ومن قُتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا) الإسراء :33
وقال صلي الله عليه وسلم : ( ومن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين : إما يُودي وإما يُقاد)


وهذا واضح في خطاب «وثيقة» المدينة في بنودها الآنفة الذكر، حيث اعتبرت الجمهور الأساس في حفظ الأمن في المجتمع المديني الجديد
 
يبرز في البند رقم (14) استعلاء المؤمنين على الكافرين، فينص صراحة أنه لم يعد من الجائز أن يثأر مؤمن من مؤمن آخـر إذا قتل قريبا له كافرا: «ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينصر كافر على مؤمن»، وكذلك لم يعد 
من الجائز أيضا مناصرة المؤمن للكافر حتى ولو بالمودة؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه العزيز:
 (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)
 (المجادلة:22)
وعلى هـذا النحو خرج الاعتداء على المشرك من دائرة المطالبة بالثأر، وأصبحت المسألة في هـذه الحالة من ضحايا الحرب لا يجوز الثأر لدمه 
وهذا ما جعل عبد الله بن عبد الله بن أبي يقول لرسول الله:( يا رسول الله بلغني أنك قاتل أبي... فمرني به فأحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرجُ ما كان لها من رجل أبر بوالده مني    
 ،  وإني أخشى أن تأمر غيري بقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل (رجلا) مؤمنا بكافر، فأدخل النار ) 


«وهذا دليل آخر على أن دم الكافر لا يكافئ دم المؤمن، وتأكيد على الترابط الوثيق بين المؤمنين وموالاتهم لبعضهم وقطع صلات الود والولاء القديمة مع الكافر 

0 التعليقات: