23‏/12‏/2015

وثيقة المدينة 13

وثيقة المدينة 13
الفصل الرابع: البعد الحضاري

المبحث الأول: التسامح الديني


الإسلام دولة «الحرية» لا «الحتمية»، قامت على أساس إنساني مفتوح
 الكهف:29 ( فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )
  فهي لا تصادر الأفكار والعقائد الأخرى، 
وإنما تدفع العدوان من جانب أصحاب تلك الأفكار والعقائد فحسب 
  (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هـُمُ الظَّالِمُونَ )  الممتحنة :9
فإن توقف العدوان فقد تقدست حرمات الإنسان 
 (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) ( الممتحنة:8)  

وبكل جلاء ووضوح يصرح «دستور» الدولة الجديدة في بنوده من رقم (25) إلى رقم (35) أن لكل طرف من الأطراف المتعاقدة دينه ومعتقده، يمارسه بكل حرية في ظل النظام الجديد لهذه الدولة الفتية، التي لا تتلفع بعصبيات الدم والأرض لتصنع عصبية أخرى؛ لأنـها ليست دولة قبيلـة أو دولة مدينة، ولم تكن أيضا دولة دم ولا أرض، وإنما هـي دولة فكرة تفتح أبوابـها لمختلف الأديان ما برئت من نزعات العدوان 


 «فالتسامح من خصائص دين الإسلام، وهو أشهر مميزاته، وإنه من النعم التي أنعم الله بها على أضداده وأعدائه، وأدل حجة على رحمة الرسالة الإسلامية المقررة بقوله تعالى:
) ( الأنبياء : 107) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ( 

وقد ترجم «دستور» المدينة تلك الرحمة بما أقره لليهود من العيش بأمن وسلام إلى جانب المسلمين، يمارسون معتقداتهم وأمور دنياهم الخاصة بهم، التي تضاد معتقد الدولة الإسلامية، التي أرسى دعائمها محمد صلي الله عليه وسلم على التسامح والتناصح والبر دون الإثم، معترفا (للآخر) اليهودي بأنه «أمة مع المؤمنين»، دون الالتفات لعقيدته
والسر هـنا في بلوغ الإسـلام شأوا بعيدا من التسامح تجاه مخالفيه: أنه لا يجد في منح المخالف حرية العقيدة، وممارسته لشعائر دينه، حرجا يضعف من الثقة بما هـو عليه من الحق المبين
ومن ثم فلا تكون تلك الحرية والممارسة لشعائر الدين المخالف مثارا للتعصب أو المشاعر العدائية 
 ومصادرة الآراء والمعتقدات

  وهنا يتبين لنا جليا أن احترام عقائد الآخرين وعدم إكراههم هـو أساس التسامح؛ لأن الإكراه في الدين لا يجوز للأمور التالية
1- النص الصريح،
 
حيث يقول الله تعالى :
(البقرة:256) (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)
) (يونس:99) أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 

2- تنافي الإكراه مع طبيعة العقيدة نفسها، من حيث كونها عنصرا نفسيا، ومن المحال تكوين أو تأسيس حقيقة نفسية بالإكراه 




بعض مظاهر التسامح

كان رسول الله صلي الله عليه وسلم  
 يطبق هـذا المبدأ عمليا مع مواطني الدولة الإسلامية في المدينة من غير المسلمين، فكان يحضر ولائم أهل الكتاب، ويغشى مجالسهم ويواسيهم في مصائبهم، ويعاملهم بكل أنواع المعاملات التي يتبادلها المجتمعون في جماعة يحكمها قانون واحد، وتشغل مكانا مشتركا، فكان يقترض منهم ويرهنهم متاعا، ولم يكن ذلك لضرورة أو عجز من أصحابه أن يقرضوه، فكان منهم الذي لا يبخل بماله، ولا يمنعه عنه بل يتلهف علي أن يقرضه من غير قيود.


وخلاصة القول: إن «دستور» المدينة، الذي تعاقد فيه المسلمون مع غيرهم من أهل الديانات الأخرى فنشأ عن ذلك أول ميثاق -عصبة أمم- أساسه النصر للمظلوم، والنصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وحرمة الوطن المشترك، كان - هـذا الدستور- الأساس المتين للدولة العالمية، وللمعاملات الدولية القائمة على أساس الحرية للمشتركين فيه وعلى مبدأ الاستقلال، كما أنه أعطى كل ذي حق حقه، فلا ظلم ولا أنانية ولا تحيز لطرف على آخر.

0 التعليقات: