23‏/12‏/2015

وثيقة المدينة 8

وثيقة المدينة 8

المبحث الثالث: الأخلاق الاجتماعية

قوله صلي الله عليه وسلم (المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من
(دون الناس
هو أول أساس لا بد منه لإقامة مجتمع إسلامي حضاري متماسك من أهم سماته ظهور معنى التكافل والتضامن فيما بين المسلمين وغيرهم بأجلى صوره وأشكاله، فهم جميعا مسئولون عن بعضهم في شئون دنياهم وآخرتهم 
أولا: التكافل بين العشائر والطوائف من خلال بنود الوثيقة

خصص النبي صلي الله عليه وسلم  
 الجزء الأول مـن «وثيقة» المدينـة مـن البنـد رقم ( 3  إلى 11) للكيانات العشائرية، واعتبرت المهاجرين 
كتلة واحدة لقلة عددهم، حيث ينص البند رقم (3) على «أن المهاجرين من قريش علي ربعتهم يتعاقلون بينهم   
  ، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين»، أما الأنصار فنسبتهم إلى عشائرهم فتقول -الوثيقة-: «وبنو... على
ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة
  تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين» وذكر العشـائر لا يعني اعتـبارها
الأساس الأول للارتباط بين الناس، ولا يعني الإبقـاء على العصبية القبلـية والعشائرية، فقد حرم الإسـلام ذلك
: ( لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَـا إِلَى عَصَبِـيَّةٍ) صلي الله عليه وسلم قـال 
وإنما للاستفادة منها في التكافل الاجتماعي، وجعل الإسلام العقيدة هـو الأصل الأول الذي يربط بين أتباعه، لكنه اعترف بارتباطات أخرى تندرج تحت رابطة العقـيدة وتخدم المجتمـع وتساهم في بناء التكافل الاجتماعي بين أبنائه 
، لأن نظام خزانة الدولة لم يكن قد وجد بعد

نلاحظ هـنا إذا أن «نشوء الدولة الإسلامية لم يؤد وفق هـذه النصوص إلى الإلغاء التام لوظائف القبيلة الاجتماعية، وذلك أنها لم تكن شرا  كلها، فأبقت «الوثيقة» لها بعض وظائفها التي تحمل معاني التعاون في الخير والتواصي بالـبر، وقد كانت تلك طريق الإسلام في تشريعاته كلها، يبقي ما كان من أعراف العرب صالحا ويلغي أو يعدل ما كان فاسدا أو متعارضا مع مبادئه الأساسية»
وهنا نستطيع القول: إن «الصحيفة» لم تفقد العرف قيمته كلية، بل أقرته، وذلك في العبارات التالية:
الأولـى: «على ربعتهم» التي تكررت في «الوثيقة» تسع مرات، في البنود من رقم (3 إلى 11)، وهي تفيد بقاء الوضع الذي كان سائدا قبل الإسلام في التركيب الداخلي للقبيلة من ناحية الزعامة والعادات والملكية، وشبكة العلاقات، كذلك من حيث الديات وتسوية المنازعات، حيث بقي العرف هـنا هـو المحدد وهذا ما أوضحته العبارة الثانية: «يتعاقلون معاقلهم الأولى»
أي أنه يتعين على أفراد العشـيرة إذا قتـل فرد منها أحـدًا خطأ، فإنها تدفع دية القتيل -بالتضامن بين أفرادها- تفرض على العاقلة
 من قرابة القاتل للأخذ بخاطر المصابين وتخفيفا لواقع المصيبة عليهم، وفي نفس الوقت تعد للجاني بغير قصد تخفيفا عنه
 ورفقا به،
إلا أن التوجه الآني كان يهدف إلى إخضاع العرف إلى القيم الإسلامية ومبادئها التي ساوت بين المسلمين في الدماء، فالدية عليهم واحدة، بعكس الحال في الجاهلية، حيث كانت دية الأفراد تختلف حسب مكانتهم الاجتماعية، فدية الشريف تختلـف عن دية الوضيع، ودية  الحر تختلف عن دية العبد، وهذا ما ركزت عـليه «الوثيقة» في العبارة الثالـثة: «بالمعروف والقسط بين المؤمنين» وهي العبارة التي ختم بها كل بند من بنود «الوثيقة» من رقم (3 إلى11) فالقبيلة لم تحافظ على سـلطتها التي كانت لها قبل الإسـلام، ومن ناحية أخرى لم يحطمها الإسلام ولا أنكرها مطلق الإنكار 
أنواع الفداء ثلاث:
أ- الفداء بالمال
ب - الفداء بمقابل أسرى للعدو بيد المسلمين
ج - الفداء بمقابل خدمات


ثانيا: وفاء الدين على الغارمين

اهتمت «الوثيقة» بواجبات المؤمنين الاجتماعية نحو بعضهم بعضا اهتماما بالغا، داعية إياهم إلى التعاون والتآزر والتكافل الاجتماعي الشامل الكامل، حيث ينص البند رقم (12) على « أن المؤمنين لا يتركون مفرحـا بينهم أن يعطـوه بالمعروف في فداء أو عقل»؛ والمفرح هـنا المثقل بالدين، الكثير العيال، ورجل مفرح محتاج مغلوب. وقيل هـو الفقير الذي لا مال له.  
وبما أن الدولة الإسلامية مازالت في مراحل تأسـيسها عند الهجرة، ولم يكن نظام خزانة الدولة قد وجد، ولم تفرض الزكاة بعد، ولا الغنائم والجزية لتتمكن الدولة من دفع دين الغارمين في تلك الفترة، فقد جعلت «الوثيقة» هـذا الالتزام المالي على المسلمين في المجتمع المديني من خلال البند رقم (12) الذي ينص على التراحم والتكافل والتضامن في دفع الديات وفكاك الأسرى، وعلى ألا يتركوا بينهم مثقلا بالدين إلا قضوا دينه بالمعروف، سـواء كان هـذا الدين ناتجا عن فقر وكثرة عيال أو عن فداء، 
أو عقل، وقد عزز هـذا البند قول الرسول صلي الله عليه وسلم: 
َنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)
وقال عليه السلام: ( َأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى )  
وهكذا بلغت الإنسانية والتعاون والمحبة غايتها في المجتمع المديني الجديد، الذي استطاع خلال فترة قصيرة القضاء على المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي صادفت المهاجرين 
حين وصولهم إليها فقراء بلا مال، فقد صادرت قريش أموالهم عقب هـجرتهم، ووصف الله لنا هـذا المجتمع الذي نشأ على الأخوة والتكافل والتراحم بقوله عز وجل :
﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هـُمُ الصَّادِقُونَ﴾ ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هـَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ  عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هـُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾              (الحشر:8-9)

ثالثا: مراعاة مبدأ الولاء
ينص البند رقم (12ب) على: (وأنه لا يحالف مؤمن مولي من دونه)
  ، والمقصود بالمولى هـنا «عبد أعتقه سيده، فأصبح حرا وعليه ما عليهم، ولكنه 
يبقى مرتبطا بسيده القديم برابطة مخصوصة تسمى ( الولاء)
ومن مقتضاها أن المولى إذا مات من غير وارث ورثة معتقه، وإذا قتل دفعت ديته إلى معتقه أيضا، وإذا ارتكب المعتق جريمة قتل أو قطع عضو ووجبت عليه الدية وعجز أقرباؤه عن دفعها، فالمولى مطالب بدفعها، وإذا كان المولى أَمَة فإنها تخطب من معتقها وهو الذي يقبض مهرها.
 
 عمل الرسول صلي الله عليه وسلم 
 على منع قيام تحالفات جديدة سواء كانت بين عشيرة وعشيرة من الأنصار أو بين العشائر والبطون ومواليها أو بينهم وبين اليهود، حيث يقول صلي الله عليه وسلم: 
) لا حِلْفَ فِي الإِسْلامِ،وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلامُ إِلا شِدَّةً (
فالعلاقات الداخلية بين فئات المجتمع المديني الجديد (يجب أن تكون علاقات تحاب وتعاون، لذلك رفض الإسلام الحلف لأنه ينافي التضامن العام داخل الأمة )
 

فإن الفقرة الأخيرة من البند رقم (15) اعتبرت المؤمنين جميعهم أولياء بعضهم لبعض، 
  قال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾  التوبة:71 
فلا يجوز لمؤمن أن يوالي كافرا، قال تعالى:
) آل عمران :28 لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ... (  


رابعا: المساواة

كان الوضع الاجتماعي بالنسبة للأفراد قبل كتابة «الوثيقة» شديد التفاوت، إذ ينقسم الناس إلا ثلاث طبقات متباينة:
أ- طبقة الأحرار
وهم الأبناء الصرحاء الذين يجمع بينهم النسب المشترك والدم الواحد ويتمتعون بحقوق مدنية ليست لغيرهم كالإجارة مثلا، ولكنه لا يقدر أن ينفصل عنها -القبيلة - لأنها شخصه وفيها حريته وكيانه، يعيش لها وبها، وهذا ما عبر عنه دريد بن الصمة بقوله:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد 
ب- طبقة الموالي
وهم الذين ينتمون إلى غير قبيلتهم من أحرار القبائل الأخرى عن طريق الحلف أو الجوار، أو التحرر من الرق 
 وهؤلاء أدنى مكانة في المجتمع من الطبقة الأولى ولا يحق لهم ما يحق للأحرار الصرحاء كالجوار مثلا، حتى ولو كانوا من أشراف القوم وساداتهم
ج- طبقة الأرقاء
وهم الذين يؤسرون في الحروب، أو يكونون في القوافل التي يستولي عليها الغزاة أو قطاع الطرق، وهؤلاء فرض عليهم المجتمع الجاهلي وضعا اجتماعيا يسلبهم كل ما يمكن أن يكون لإنسان، ويثقلون كواهلهم بتبعات تحول بينهم وبين ريح الحياة الكريمة .
ولما جاء الإسلام حارب الطبقية بكل أشكالها وألوانها، يتضح ذلك من خلال «وثيقة» المدينة، حيث ينص البند رقم (15) على «أن ذمة الله واحدة، يجـير عليهم أدناهم...»، والأمان (الإجارة) عقد من العقود الشرعية التي أمر الله بالوفاء بها
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) المائدة:1
وينعقد الأمان بأي لفظ من الألفاظ كأمنتك، أو أجرتك، أو لك علي عهد...)، أو ما شاكل ذلك، كما ينعقد بالإشارة من الرجل أو المرأة، والعبد أو الحر، والغني أو الفقير، بدون تمييز



خامسا: مراعاة حق الجار

 ينص البند رقم (40) على «أن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم
 روى الإمام أبو يوسف (ت182ه)   
الخليفة عمر بن الخطاب  أن
 (مر يوما بباب قوم وعليه سائل يسأل، وكان شيخا أعمى، فضرب عمر بعضده، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال الرجل: يهودي، فقال له: وما ألجأك إلى ما أرى؟ فقال: أسأل الجزية، والحاجة، والسن، فأخذ عمر بيده وذهب إلى منـزله وأعطاه
 شيئا مما عنده، ثم أرسل إلى خازن بيت المال وقـال لـه : انظر هـذا وضرباءه، فوالله ما أنصفنا الرجل، أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم 
) التوبة:60 إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ( 
وهذا من مساكين أهل الكتاب وأرفع الجزية عنه وعن أمثاله) 

كما أكدت «الوثيقة» الكثير من المبادئ الأخلاقية المهمة في العلاقات الاجتماعية بين مختلف سكان المدينة، ففي الفقرة الأخيرة من البند رقم (37) ركزت «الوثيقة» على مبدأ النصيحة بين المتساكنين بناء على قاعدة «الدين النصيحة» حيث نصت الفقرة على «أن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم»؛

0 التعليقات: