غياث الأمم في التياث الظلم 12
فإن
قيل: لم تذكروا الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر.
قلنا:
الشرع من مفتتحة إلى مختتمه أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر، وما يتعلق بالإمام منه
ما فصلناه، والدعاء إلى المعروف والنهي عن المنكر يثبتُ لكافة المسلمين، إذا قدموا
على ثبت وبصيرة، وليس إلى الرعية إلا المواعظ والترغيب والترهيب، من غير فظاظة
وملق.
ومن ظهر منه الصدقُ والديانة، وتجرد لله تعالى، فأوضح الحق وأبانه، على
تخضّع لله واستكانة، ثم زان برفقه شأنه، وما دخل الرفق أمراً إلا زانه ونجع
كلامُه في المستكبرين في زمانهم، المتولين بأركانهم، فإن لم يرعوا؛ لم يكن للرعية
المكاوحةُ وشهرُ الأسلحة، ولكنهم يُنْهون الأمور إلى الولاة، ثم إنهم يرون رأيهم
في فنون الردع، كما سبق تفصيلُها.
أما تفصيل القول في الأمر بالمعروف فإنه يحويه كتابٌ
يليق بالفقهاء أن يستقصوه
ـ نجدة الإمام
وعدته:
ليس
يخفي على ذي بصيرة أن الإمام يحتاج في منصبه العظيم، وخطبه الشامل العميم، إلى
الاعتضاد بالعَدَد والعتاد، والاستعداد بالعساكر والأجناد؛ فإنه متصدٍّ لحراسة
البيضة، وحفظِ الحريم، والتشوف إلى بلاد الكفار، فيجب أن يكون عسكره معقوداً، يرون
التطلع إلى أوامره شوفاً مقصوداً، ومطمحاً معموداً، ولا يجوز أن يكون معولُّه
المتطوعةَ الذين لا يتنشَّأون إذا نُدِبوا مبادرين؛ حتى يتأهبوا، ويستعدُّوا
ويتألَّبوا، ولن تقوم الممالك إلا بجنود مجنَّدة، وعساكرَ مجردة، مشرئبون
للانتداب، مهما ندبوا، بعزائم جامعة، وآذانٍ متشوفة إلى صوت هائعة، وهؤلاء هم
المرتزقة - الجيش - لا يشغلهم عن البدار دهقَنَةٌ وتجارة، ولا تلهيهم ترفة ولا عمارة.
فإذا
تقرر أنه يتحتم استظهارُ الإمام بالأعوان والأنصار فلا بد من الاستعداد بالأموال.
وقد ذكرنا أن الأموال التي يجمعها ويجيبها ويطلبها وينتحيها، تنقسم إلى ما يتعين
مصرفه وإلى ما يعم انبساطُه على وجوه المصالح.
وتفاصيل الأقوال في الأموال مذكورة في كتب الفقه
فمن
الأموال المختصة بالمصارف الزكواتُ، وهي مصروفةٌ إلى الأصناف الموصوفين في كتاب
الله، وسنن رسول الله صل الله عليه وسلم بأوصاف.
والقول
في اقدارها ومحالها، وفي مصارفها مذكورٌ في كتابين من الفقه، أحدُهما بكتاب
الزكاة، والثاني بكتاب قَسْم الصدقات،
ومنها
أربعة أخماس الفيء. والفيءُ مالُ كافرٍ عُثر عليه من غير إيجاف خيل وركاب، ويدخل
تحته الجزية، والأخرجة عند من يراها من العلماء، وأموال المرتدين، وما ينجلي عنه
الكفار من غير قتال مرعوبين مذعورين أو مختارين.
فأربعة
أخماس ما وصفناه تختص في ظاهر المذهب بالمرتزقة - الجيش - والجند المترتبين في الإسلام.
والقول فيه وفي خُمس الغنيمة، وخُمس الفيء مذكور في كتابٍ مفرد في فن الفقه.
وأما المال العام فهو مال المصالح، وهو خُمُس خُمسِ
الفيء، وخُمس خمس الغنيمة، وما يخلفُه مسلم ليس له وارث خاص، ويلتحق بالمُرْصَد
للمصالح مالٌ ضائع للمسلمين قد تحقق اليأس من معرفة مالكه ومستحقِّه
فالذي
أذكره في الأموال ثلاثة اشياء يفتقر إليها الإيالة لا محالة:
أحدها: ذكر ألفاظ وجيزة
ضابطة لجمل المصاريف وكلياتها.
والثاني: في تحقيق القول في
أن الإمام هل ينزف مال بيت المال كلَّ سنة، أو يستظهر بذخيرة ليكون من أمره على
بصيرة.
والثالث: تفصيلُ القول فيه
إذا نفذت الأموال، وانحسمت مجالبها ومكاسبها، فكيف يكون مضطربُه ومجالُه؟ ومن أين
ماله؟ وإلى ماذا يؤول مآله؟
فأما القول الضابط في كُلِّيِّ المصارف فأقول: من يرعاه الإمام بما في يده من
المال ثلاثةُ أصناف:
صنف
منهم محتاجون، والإمام يبغي سدَّ حاجاتهم، وهؤلاء معظم مستحقي الزكوات في الآية
المشتملة على ذكر أصناف المستحقين: قال الله تعالى ]إنما الصدقات للفقراء[ الآية. وللمساكين
استحقاقٌ في خمس الفيء، والغنيمة كما يفصله الفقهاء، فهؤلاء صنف من الأصناف
الثلاثة.
والصنف الثاني أقوام ينبغي للإمام كفايتُهم، ويدرأ عنهم بالمال الموظِّف لهم
حاجتَهم، ويتركهم مكفيين ليكونوا متجردين لما هُم بصدده من مُهِمِّ الإسلام.
وهؤلاء صنفان:
أحدهما:
المرتَزقةُ، وهم نجدةُ المسلمين وعُدَّتُهم، وَوَزَرُهم وشوكتُهم، فينبغي أن يصرف
إليهم ما يرمّ خَلَّتهم، ويسدّ حاجتَهم، ويستغنوا به عن وجوه المكاسب والمطالب،
ويتهيأوا لما رُشحوا له، وتكونُ أعيُنهم ممتدَّة إلى أن يُنْدَبوا، فَيَخِفُّوا
على البدار، وينتدبوا من غير أن يتثاقلوا، ويتشاغلوا بقضاء أرَبٍ، وتمهيد
سبب. وغرضُنا الاكتفاءُ بتراجم كلية
في التقاسيم.
والفقهاء يستقلون بإيضاح التفاصيل. فهؤلاء صنف
من الصنفين المذكورين آخراً.
والصنف
الثاني: الذين انتصبوا لإقامة أركان الدين، وانقطعوا بسبب اشتغالِهم واستقلالهم
بها عن التوسّل إلى ما يُقيم أَوَدَهم، ويسدُّ خَلَّتَهم. ولولا قيامُهم بما
لابَسُوه، لتعطَّلت أركان الإيمان.
فعلى
الإمام أن يكفيهم مُؤَنَهم حتى يسترسلوا فيما تصدَّوا له بفراغ جنان، وتجرُّدِ
أذهان، وهؤلاءِ هم: القضاةُ والحكامُ، والقسَّامُ والمفتون والمتفقهون، وكل من
يقومُ بقاعدةٍ من قواعد الدين، يُلهيه قيامُه عمّا فيه سدادُه وقوامُه.
فأما
المرتزقة، فالمال المخصوص يعم أربعة أخماس الفيء.
والصنف
الثاني يُدِرُّ عليهم كفايتَهم وأرزاقَهم من سهم المصالح، وقد أتى مساقُ التقسيم
على صنفين من الأصناف الثلاثة المتقدمين.
والصنف الثالث: قومٌ يصرف إليهم طائفة من مال بيت المال على غِناهم واستظهارِهم، ولا يتوقف استحقاقهم
على سدّ حاجة، ولا استيفاء كفاية، وهم بنو هاشم، وبنوا المطلب المسمَّوْن في كتاب
الله ذا القربى، فهؤلاء يستحقون سهماً من خمس الفيء والغنيمة من غير اعتبار حاجة
وكفاية عند الإمام الشافعي رحمه الله.
وقد
شهدت بصحة مذهبه الأخبارُ الصحيحة، والنصوص الصريحة، وسيرُ الخلفاء، ومذاهبُ
العلماء قبل ظهور اختلاف الآراء.
فهذه
جملٌ في مصارف أموال بيت المال، يليق بالايالة العظمى حفظُها.
وقد انتهى الغرض في هذا الفن
أما المرتزقة إن توفَّرت عليهم كفايتُهم، وانسدَّت
خَلاَّتُهم، وفَضَل من أربعة أخماس الفيء فاضلٌ، فيجب فضّ الفاضل عليهم على أقدار
أعطيتِهم وأقساطِهم.
وأما
المال المرصد للمصالح، فلا نتصوَّر انقطاعَ مصارفه.
والإمام
يبدأ فيه بالأهم فالأهم، فإن مسَّت الحاجةُ إلى ضم طائفةٍ منه إلى مال المرتزقة،
أو صَفِرَ بيت المال عن الفيء، فأهم المصالح تمهيدُ كفايةِ المرتزقة، وإن لم تف
الزكوات بحاجات المحاويج سدَّ الإمام حاجاتِهم بمال المصالح.
فإذن
مال المصالح مُعَدٌّ لكل مصلحة ليس لها على الخلوص والخصوص مال، وكل مصرِف قَصَر
عنه المال المُعَدُّ له، فمالُ المصالح يستتمُّه ويستكمله، ولو فرض زوال الحاجات
وارتفاع الضرورات، فهؤلاء يقولون: فاضلُ مال المصالح يبني به الرِّباطاتُ
والقناطرُ والمساجدُ وغيرُها من جهات الخير.