غياث الأمم في التياث الظلم 11
لست أرى للسلطان اتساعاً في التعزير إلا في إطالةِ
الحبس
من يتخذ سَنَن الأكاسرة والملوك المنقرضين عمدةَ
الدين، ومن تشبث بهذا، فقد انسلَّ عن ربقة الدين انسلال الشعرة من العجين
وإنما ينسلُّ عن ضبط الشرع، من لم يُحط بمحاسنه، ولم
يطلع على خفاياه ومكامنه، فلا يسبقُ إلى مكرمةٍ سابقٌ إلا ولو بحث عن الشريعة
لألفاها أو خيراً منها في وضع الشرع
ص 87 الكلام علي توبة الزنديق واختياره صحتها
وأما
سدُّ الحاجات والخَصاصات فمن أهم المهمات، ويتعلق بهذا ضربٌ من الكلام الكلي، وقد
لا يُلْفى مجموعا في الفقه.
فأقول:
إذا بنينا على غالب الأمر في العادات، وفرضنا انتفاءَ الزمان عن الحوائجِ والعاهاتِ
وضروبِ الآفات، ووُفِّق المثرون الموسرون لأداءِ الزكوات، انطبقت فضلاتُ أموال
الأغنياء على أقدار الحاجات.
وإن
قُدِّرت آفةٌ وأَزْمٌ وقحط وجدب، وعارضه غلاء في الأسعار تزيد معه أقدار الزكوات
على مبالغ الحاجات، فالوجه استحثاثُ الخلق بالموعظة الحسنة على أداءِ ما افترض
الله عليهم في السنة. فإن اتفق مع بذل المجهود في ذلك فقراءُ محتاجون لم تف
الزكوات بحاجاتهم، فحقٌّ على الإمام أن يجعل الاعتناءَ بهم من أهمِّ أمرٍ في باله،
فالدنيا بحذافيرها لا تعدل تضرر فقير من فقراء المسلمين في ضُرٍّ. فإن انتهى نظرُ
الإمام إليهم رمَّ ما استرمَّ من أحوالهم من الجهات التي سيأتي عليها شرحنا، إن
شاء الله عز وجل.
فإن لم يبلغهم نظرُ الإمام وجب على ذوي اليسار
والاقتدار البدارُ إلى رفع الضرار عنهم، وإن ضاع فقير بين ظهراني موسِرين حَرِجُوا
من عند آخرهم، وباؤا بأعظم المآثم، وكان الله طليبَهم وحسيبَهم.
وقد
قال رسول الله صل الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله
واليوم الآخر فلا يبيتن ليلة شعبان وجاره طاوٍ)، وإذا كان تجهيز الموتى من
فروض الكفايات فحفظ مهج الأحياء وتدارك حشاشة الفقراء أتم وأهم.
فالوجه
عندي إذا ظهر الضُّرُّ وتفاقم الأَمر، وأَنشبت المنيَّة أظفارَها، وأَشْفَى
المضرورون، واستشعر الموسرون، أن يستظهر كلُّ موسِرٍ بقوت سنة، ويصرفَ الباقي إلى
ذوي الضرورات، وأصحاب الخصاصات، ولست أقول: أن منقرض السنة يستعقب انجلاءَ المحن،
وانقضاء الفتن على علم أو ظن غالب. ولكن لا سبيلَ إلى ترك الفقراء على ضُرِّهم،
ولا نعرف توقيفا في الشرع ضابطاً ينتهي إليه فيما يبذله الموسر وفيما يُبقيه،
ورأينا في السنة قواعدَ شرعية تشير إلى هذه القضية، وفي اعتبار السنة أيضا حالة
ظنية عقلية.
فأما
أمارات الشرع فمن أقربها تعلق وظيفة الزكاة بانقضاء السنة، وكان رسول الله صل الله
عليه وسلم يضع لنسائه في أوقات الإمكان قوتَ سنة.
وأما
الأمر العقلي، فقد يُظن أن الأحوال تتبدَّل في انقضاء السنة؛ فإنها مدة الغلاَّت،
وأمدُ الثمرات وفيها تحول الأحوال وتزول، وتعتقب الفصول. ثم الباذلون في بذلهم على
غرر وخطر. ولكن ما ذكرناه أقْصَدُ معتبر، وما ذكرته بيان ما يسوغ، وليس أمراً
مجزوماً، ولا حكما محتوماً، فمن طابت نفسه بإيثار أخيه على نفسه، فالإيثار من شيم
الصالحين وسير الموفَّقين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق