روح السياسة 17
الأشكال الحديثة لرغائب الشعب
تظهر أنواع الاستبداد السابق
مسماه بأسماء جديدة ، وستكون الحرية فى المستقبل كناية عن تباغض أبناء الوطن
وتضاغنهم .
الفوضى فى جميع البلدان تؤدى
إلى الحكم المطلق الجائر ، كما أدت إليه فى روما وأثينا والجمهوريات الإيطالية .
لا وسيلة للهرب متى تقابل الجيشان
، فيجب على أحدهما أن يختار أحد الأمرين :
فإما أن يلقى السلاح ويقع أسيرا وإما أن
يحارب ، فإذا وقع أسيرا أصبح تحت رحمة الغالب الذى يملى عليه شروطه ، وإذا حارب
فقد يتم له النصر وقد يغلب على أمره مع إنقاذ شرفه .
إذا القرار الشافى الذى كان
واجبا هو أن تعارك الحكومة المستندة إلى البرلمان جميع القوى المتحالفة ضدها ، نعم
كان من الممكن أن ينضم إلى موظفى البريد عمال الكهرباء ومستخدمو السكك الحديدية
وغيرهم ، وأن يقع شئ من الهوش فى شوارع باريس التى قد تصيبها المجاعة بضعة أيام ،
غير أنه لا بد من ظفر الحكومة فى ذلك ، وإما إلقاء السلاح بنذالة وخنوع فقد جعل
العراك فى المستقبل أمرا محتما ، ولا أحد يفهم من ينال النصر فيه ، فالجيش وإن كان
يؤيد الحكومة فى هذا الزمن قد لا يدعمها بعد قليل من السنين .
وعلى ذلك من الضرورى اجتياز فترة
صعبة من الزمن لاجتناب فترات أكثر منها حرجا ، وأن ترقى الأمة يتم برقى أحوال
الأفراد النفسية الذين تتألف منهم .
وقد أثبتت تجارب الماضى أن
العالم يخضع لأولى الجرأة حينما يكونون ذوى مثل أعلى مهما تكن قيمته ، فأصحاب
العزم القوى والإيمان الراسخ هم الذين قضوا على أعظم الدول وأقاموا ديانات كبيرة
استعبدت النفوس .
فالحق ليس سوى قوة مستمرة .
مبدأ المزايدة الانتخابية الذى
هو آفة النظام الديمقراطى .
قال ( كاميل ديمولان ) : كان فى
روما نائب اشتراكى ثقيل اسمه ( غراكوس ) فكان يعد العمال بوعود متعذر تحقيقها ،
وبهذه الوعود الخلابة أصبح محبوبا من الشعب على حساب مجلس الشيوخ ، ولما ساور
القلق هذا المجلس استأجر فوضويا اسمه ( دروزوس ) ليزايد ( غراكوس ) فى جميع
اقتراحاته ، فكان إذا طلب ( غراكوس ) بيع رطل الخبز بأربعة دوانيق مثلا اقترح (
دروزوس ) بيعه بدانقين ، وهكذا حتى أضاع ( غراكوس ) محبة لشعب له فقتله عباده
السابقون غير آسفين عليه .
إن المزايدة الانتخابية أصدق
وسيلة لقهر الخصوم ، ليس الوعد بالأمر الصعب ، ويمكن تأجيل ساعة انجازه وتحقيق
أمره بحجة معارضة الأحزاب له ، إلا أنه يجئ وقت على الناخب يدرك فيه أنه خدع
بالأوهام ، والأوهام لا تزول من نفس المرء من غير أن يسخط كما هو معلوم .
والنائب اليوم عبد لجنته
الانتخابية ما رد على من لا يعول على أصواتهم أيام الانتخابات ، أى يجب عليه أن
يسير حسب منافع ذوى التأثير من ناخبيه وأحقادهم .
وعلى رغم ذلك ترى بين النواب من
هم ذوى قلب سليم ، ولكن هؤلاء بعد أن يجتمعوا ويكتسبوا ما للجماعة من صفات يعجزون
عن عمل أى شئ .
الموظفين إذا لم يكبح جماحهم لا
يبهظون الميزانية فقط بل يقيمون فى وسط الدولة دولا صغيرة مكان السلطات الأخرى ،
وهم يطيعون الحكومات ما دامت تجيبهم إلى رغباتهم .
فالجماعات لا تحترم سوى
الحكومات القوية ، وهى لا تكون شاكرة لمن تنال منه رغائبها بقوة التهديد بل تحتقره
وتنظر إليه شزرا .
ولاعتقاد رؤساء السلطة عجزهم
تراهم لا يبالون بالأمور العامة ، ولا يفكرون إلا فى منافعهم الشخصية ، ومن وقت
إلى آخر تنشأ عن هذا التخلى وتلك الفوضى نكبة جديدة ، فالضأن تخلع الطاعة فى آخر
الأمر .
نعم إن للحرية أنصارا من أصحاب العلوم النظرية ، ولكن الاستبداد هو الذى
يستهوى الجماعات وقادتها .
0 التعليقات:
إرسال تعليق