روح السياسة 15
مع كل ما بيناه لا نتوجع كثيرا مما فى الجمهور من سرعة التصديق ، فالعوامل
التى تؤثر فى تكوين المدنيات كعامل سرعة التصديق قليلة جدا ، وبفضل هذا العامل خر
جت الديانات من العدم وتأسست أقوى الدول .
فسرعة التصديق
تجعل الايمان أمرا ممكنا وتحافظ على ما تستند إليه عظمة البلاد من التقاليد ، وما
هو الذى يدافع عن الايمان بالوطن والايمان بالمثل الاعلى والايمان بالمستقبل من
غير سرعة التصديق ؟
إن
الشعوب التى تضيع كل ايمان فيها تضيع نفسها وبواعث السير فيها ، وهى بانحطاط مستمر
تلحق بالشعوب الغابرة التى قوض الشك أركانها .
كنت لا أزال صغيرا عندما تيسر
لى فى ميدان إحدى المدن الصغيرة أخذ درس نفسى مؤثر فى المضوع ، وقد مضت ثلاثون سنة
حتى تم إدراكى لمغزاه .
على أننى قط لم أنس ذلك الدجال ،
فما كان يبيعه هو الأمل ، أى العنصر غير المادى الخالد الذى يقود العالم ، وهل باع
أحبار الأديان ورجال السياسة فى كل جيل شيئا غير الامل ؟
العوامل الأربعة فى إدخال الايمان إلى قلوب الجماعات وهى :
- أولا النفوذ ، وهو الذى يوحى إلى النفوس بالأمر
ويلزمها إياه .
- ثانيا التوكيد ، غير المبرهن والذى يعفى من
المجادلة .
- ثالثا التكرار ، وهو الذى يجعل
المرء يسلم بصحة الأشياء المؤكدة .
- رابعا العدوى النفسية ، وهى التى يتحول بها
يقين الفرد الضعيف إلى يقين قوى .
وعوامل الإقناع لا تؤثر فى غير
المشاعر ، أى بواعث السير فينا .
تختلف المعرفة عن المعتقد ، وقد
لاحظ أفلاطون ذلك فأشار إلى أنهما لايقومان على أساس واحد .
فالمعارف تتضمن أدلة وبراهين ، وأما المعتقدات
فليس فيها شئ من ذلك ، وهذه هى العلة فى أن جميع الناس لهم معتقد مع أن عدد الذين
يصعدون منهم إلى سماء المعرفة قليل جدا .
فالبقعة التى على الخطيب أن
يرودها هى بقعة اللاشعور ، ونضيف إليها العامل الشخصى المؤلف من عناصر كثيرة
الاختلاف متعذر ضبطها تحت قاعدة .
فالخطيب الذى يستهوى الأفئدة ويخلب ألباب الناس ىبشخصه أكثر منه بكلامه ،
فكأن روح سامعيه مزهر يتأثر من أقل تلحين عليه .
وأكبر عدو للخطيب هو المعتقد
المتين الراسخ فى نفوس سامعيه ، فالمعتقد حصن لا يقدر أحد على خرقه .
وفى الجماعات العامية كما فى
المجالس الرفيعة ، يجب على الخطيب فى جميعها أن يتنبأ بما يجول فى خاطرها ، وأن
يفكر مثلها فى البذاءة ليجعلها تفكر مثله .
الوزير الألمانى ( بيلوف ) الذى
يعد من أكبر خطباء زماننا قال : " ياقوم فن الخطابة فى المجالس السياسية على
علم الخطيب بما ينتظره السامعون منه ، فمتى وقع هذا العلم وعمل الخطيب بما يلائمه
فبشره بالنجاح "
وإنى لا أبالغ إذا قلت إن نقوس
الساحر والمسحور والسائس والمسوس غير الشاغرة تتناجى حسب ناموس غامض أمره .
إن العقل يخلق العلم وإن
المشاعر تقود التاريخ .
ولكى ندرك تأثير تلك المحرضات
لنتذكر ما للأوهام من السلطان على روح الشعب ، فإنكار هذا السلطان جهل بالتاريخ .
ليست الجماعة بحكم الضرورة
عبارة عن أشخاص مجتمعين فى مكان واحد حتى يتصفوا بصفات الجماعة ، أى بسرعة
الانفعال والتقلب والصولة وسرعة التصديق وفقدان ملكة الانتقاد وعدم التعقل وزيادة
التقديس والاحتياج إلى سيد مطاع وهى اليوم كما فى الماضى مستعدة للسجود أمام جميع
المستبدين .
" تتشابه الجماعات بالأوصاف الأتية : عدم التسامح الشديد والزهو
الغريب والانفعال الكبير وعدم تحمل التبعة الناشئ عن وهمها بقدرتها العظيمة وعن
عدم رويتها ، ولا وسط عندها بين اللعن والعبادة وبين الخوف والحماسة وبين الرفع
والخفض .
( ب) الزعيم بالحقيقة عبارة عن
رمز مترجم لروح الجماعة التى قد يستغلها أناس غيره فالجماعة مع شدة إطاعتها شديدة
التقلب ، وسوف لا يمضى زمن قصير حتى نرى نجم (ب) قد أفل كما وقع لزعماء عصيان
الجنود .
فالجماعات تحتقر الضعف وتحترم
القوة على الدوام ، إن أرباب العمل إذا لم يدافعوا عن أنفسهم ولم يقفوا على روح
الجماعات يستحقون ما يهددهم من السقوط وسوء المصير .
0 التعليقات:
إرسال تعليق