01‏/06‏/2016

روح السياسة 15

روح السياسة 15



مع كل ما بيناه لا نتوجع كثيرا مما فى الجمهور من سرعة التصديق ، فالعوامل التى تؤثر فى تكوين المدنيات كعامل سرعة التصديق قليلة جدا ، وبفضل هذا العامل خر جت الديانات من العدم وتأسست أقوى الدول .   


   فسرعة التصديق تجعل الايمان أمرا ممكنا وتحافظ على ما تستند إليه عظمة البلاد من التقاليد ، وما هو الذى يدافع عن الايمان بالوطن والايمان بالمثل الاعلى والايمان بالمستقبل من غير سرعة التصديق ؟   

   إن الشعوب التى تضيع كل ايمان فيها تضيع نفسها وبواعث السير فيها ، وهى بانحطاط مستمر تلحق بالشعوب الغابرة التى قوض الشك أركانها .

    كنت لا أزال صغيرا عندما تيسر لى فى ميدان إحدى المدن الصغيرة أخذ درس نفسى مؤثر فى المضوع ، وقد مضت ثلاثون سنة حتى تم إدراكى لمغزاه .

    على أننى قط لم أنس ذلك الدجال ، فما كان يبيعه هو الأمل ، أى العنصر غير المادى الخالد الذى يقود العالم ، وهل باع أحبار الأديان ورجال السياسة فى كل جيل شيئا غير الامل ؟
العوامل الأربعة فى إدخال الايمان إلى قلوب الجماعات وهى :  
    -  أولا النفوذ ، وهو الذى يوحى إلى النفوس بالأمر ويلزمها إياه .  
    -  ثانيا التوكيد ، غير المبرهن والذى يعفى من المجادلة .       
    -  ثالثا التكرار ، وهو الذى يجعل المرء يسلم بصحة الأشياء المؤكدة .        
    -  رابعا العدوى النفسية ، وهى التى يتحول بها يقين الفرد الضعيف إلى يقين قوى .   

    وعوامل الإقناع لا تؤثر فى غير المشاعر ، أى بواعث السير فينا .
    تختلف المعرفة عن المعتقد ، وقد لاحظ أفلاطون ذلك فأشار إلى أنهما لايقومان على أساس واحد .

     فالمعارف تتضمن أدلة وبراهين ، وأما المعتقدات فليس فيها شئ من ذلك ، وهذه هى العلة فى أن جميع الناس لهم معتقد مع أن عدد الذين يصعدون منهم إلى سماء المعرفة قليل جدا .

    فالبقعة التى على الخطيب أن يرودها هى بقعة اللاشعور ، ونضيف إليها العامل الشخصى المؤلف من عناصر كثيرة الاختلاف متعذر ضبطها تحت قاعدة .   

        فالخطيب الذى يستهوى الأفئدة ويخلب ألباب الناس ىبشخصه أكثر منه بكلامه ، فكأن روح سامعيه مزهر يتأثر من أقل تلحين عليه .

    وأكبر عدو للخطيب هو المعتقد المتين الراسخ فى نفوس سامعيه ، فالمعتقد حصن لا يقدر أحد على خرقه .

    وفى الجماعات العامية كما فى المجالس الرفيعة ، يجب على الخطيب فى جميعها أن يتنبأ بما يجول فى خاطرها ، وأن يفكر مثلها فى البذاءة ليجعلها تفكر مثله .

    الوزير الألمانى ( بيلوف ) الذى يعد من أكبر خطباء زماننا قال : " ياقوم فن الخطابة فى المجالس السياسية على علم الخطيب بما ينتظره السامعون منه ، فمتى وقع هذا العلم وعمل الخطيب بما يلائمه فبشره بالنجاح "

    وإنى لا أبالغ إذا قلت إن نقوس الساحر والمسحور والسائس والمسوس غير الشاغرة تتناجى حسب ناموس غامض أمره .

    إن العقل يخلق العلم وإن المشاعر تقود التاريخ .   
    ولكى ندرك تأثير تلك المحرضات لنتذكر ما للأوهام من السلطان على روح الشعب ، فإنكار هذا السلطان جهل بالتاريخ .

    ليست الجماعة بحكم الضرورة عبارة عن أشخاص مجتمعين فى مكان واحد حتى يتصفوا بصفات الجماعة ، أى بسرعة الانفعال والتقلب والصولة وسرعة التصديق وفقدان ملكة الانتقاد وعدم التعقل وزيادة التقديس والاحتياج إلى سيد مطاع وهى اليوم كما فى الماضى مستعدة للسجود أمام جميع المستبدين .          

 " تتشابه الجماعات بالأوصاف الأتية : عدم التسامح الشديد والزهو الغريب والانفعال الكبير وعدم تحمل التبعة الناشئ عن وهمها بقدرتها العظيمة وعن عدم رويتها ، ولا وسط عندها بين اللعن والعبادة وبين الخوف والحماسة وبين الرفع والخفض .

    ( ب) الزعيم بالحقيقة عبارة عن رمز مترجم لروح الجماعة التى قد يستغلها أناس غيره فالجماعة مع شدة إطاعتها شديدة التقلب ، وسوف لا يمضى زمن قصير حتى نرى نجم (ب) قد أفل كما وقع لزعماء عصيان الجنود .


    فالجماعات تحتقر الضعف وتحترم القوة على الدوام ، إن أرباب العمل إذا لم يدافعوا عن أنفسهم ولم يقفوا على روح الجماعات يستحقون ما يهددهم من السقوط وسوء المصير . 

0 التعليقات: