01‏/06‏/2016

روح السياسة 14

روح السياسة 14



فلقد علمنا التاريخ أن الجموع شديدة المحافظة على رغم غرائزها الثورية الظاهرة ، وهى لا تلبث أن تتبنى ما هدمته .

    وأسهل طريقة لمعالجة ذلك تقليل السلطة الشعبية ، غير أن تطور الحكومات الديمقراطية في  جميع البلدان يدلنا على أن السلطة الشعبية بنت بضع ضرورات نفسية لا يجدى ذمها و لومها نفعا ، فعلى صفوة الرجال أن يمتزجوا بالحكومات الشعبية ، وأن يحولوا دون تنفيذ أهواء الجماعات بما يضعونه من الحواجز كما يفعل المهندسون فى معالجة السيول بالأسداد .

    ولنعلم أن مذهب السيادة الشعبية لا يناقض العقل أكثر من تناقضه المذاهب الدينية التى عاش بها البشر فى الماضى .        

 ويظهر لنا من مطالعة كتب التاريخ أن الإنسان يلتئم بأى شئ أكثر منه بالمعقول ويكون التئام صفوة الناس بالجموع كثيرة السهولة لو لم يبذر زعماء الأحزاب فى نفوس الجموع أضاليل وأحقادا هى السبب فى ما بين طبقات الأمة من البغضاء .

    وتزول تلك البغضاء يوم تدرك الجموع أن زوال صفوة الناس أو ضعفهم يؤدى إلى فقرها ثم إلى هلاكها .

    ضرورة إحداث تربية جديدة فى دورنا الديمقراطى ، على أن يكون المقصد الأول لتلك التربية تعليم الناس خط الوصل بين العناصر الثلاثة للحركة المعاشية : الذكاء ، ورأس المال ، والعمل .  


    والحق أن الجماعات لا تسبب جريان الرأى ، وكل ما تفعله أنها تمنح الرأى قوة لا تقاوم ، لا حد لانقياد الجماعات لمن يعرف كيف يقودها ، فمعرفة روح الجماعات أكثر ما يحتاج إليه أولو الأمر فى نظام ديمقراطى كنظامنا .

    وهم لجهلهم أن الجماعات تحتقر الضعف لا يعلمون أن الهبات التى يمنحونها إياها إزاء ما تأتى به من الوعيد تؤدى إلى تجريدهم من كل نفوذ فى نظرها ، وكل ما تفعله هذه الهبات فى نفوس زعماء الجموع هو جعلهم يعتقدون أن العنف يكفى لنيل المآرب والأغراض .

    تختلف به روح الجماعات عن روح الفرد من طراز التفكير وبواعث الحركة ومن منافع ، بل أشير إلى أن الجماعات تتصف بالعجز عن التعقل وبأنها لا تأخذ بالمعقولات وببساطتها وشدة انفعالها وسرعة تصديقها ، وبأن الأفكار لاتؤثر فيها إلا بعد صوغها فى صيغ موجزة مولدة للخيالات .

    وقد علم رجال السياسة بغريزتهم أن الجماعات عاجزة عن صوغ كثير من الأفكار دفعة واحدة ، وأن الصيغ الشديدة الواضحة عظيمة التأثير . 

والإنجليز سباقون فى هذا المضمار وقد أثبتت لنا انتخاباتهم الاخيرة ما للصيغ البسيطة المؤكدة من التأثير فى النفوس .

 لنذكر بجانب نقائص الجموع مزاياها

    عجز الجموع عن التعقل ينمى فيها محبة الغير التى يضعفها العقل مع أنها قضية اجتماعية مفيدة ، فالرجل الذى ينظر إلى الأمور بعين العقل هو رجل ذو أثرة قلما تجعله يضحى بنفسه فى سبيل المصلحة العامة مع إن الجماعات تأتى بمثل هذه التضحية .

    ومن الصفات التى تتصف بها ذهنية الشعب سرعة التصديق ، ولا حد لسرعة التصديق فى الجموع فكل شئ  ممكن فى نظرها ، فإذا طلبت القمر وجب وعدها به ، ولا يتأخر رجال السياسة عن الإتيان بمثل هذه الوعود أمامها . 

     وفى معركة انتخابية إذا اتهمتم خصمكم بأبعد الافتراءات من المعقول فسرعان ما تصدقون .

    وإنى أنصحكم بأن لا تعزو إليه اقتراف جنايات مغمة خوفا من أن يصبح محطا لعواطف سامعيكم ، فالجموع تبدى نحو أكابر المجرمين شيئا من الاعجاب والاحترام على العموم .

    وما فى الجماعات من الافراط فى سرعة التصديق ليس خاصا بها ، فسرعة التصديق لا الشك هى التى تلائم حالتنا الطبيعية . 

فالجمهور لا يطلب دليلا ولا يعرف المستحيل ، فالنجاح فى ميدان السياسة قائم على وعد الاوهام والتوكيد بلا دليل وتكرار الوعود نفسها تكرارا متصلا ومزايدة الخصم فيها . 

0 التعليقات: