15‏/11‏/2015

الموافقات 9

الموافقات 9




المجتهد إنما يتورع عند تعارض الأدلة، لا عند تعارض الأقوال


القسم الثاني: كتاب الأحكام
مدخل

كتاب الأحكام: 2
والأحكام الشرعية قسمان: أحدهما يرجع إلى خطاب التكليف3 والآخر يرجع إلى خطاب الوضع؛ فالأول ينحصر في الخمسة؛ فلنتكلم على ما يتعلق بها من المسائل، وهي جملة:


القسم الأول: خطاب التكليف
المسألة الأولى 1: [ في المباح ]2
أحدها:
أن المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك، من غير مدح ولا ذم، لا على الفعل ولا على الترك،
إجماع المسلمين على أن ناذر ترك المباح لا يلزمه الوفاء بنذره

وفي الحديث: "أن رجلا نذر أن يصوم قائما، ولا يستظل، فأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجلس، وأن يستظل، ويتم صومه"4. قال مالك: أمره -عليه السلام- أن يتم ما كان لله طاعة، ويترك ما كان لله معصية؛ فجعل5 نذر ترك المباح معصية6 كما ترى7.

4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، 11/ 586/ رقم 6704" من حديث ابن عباس, رضي الله عنه.
5 حمل المؤلف كلام مالك على ترك المباح وهو الجلوس والاستظلال؛ فقال ما قال، ولكن في الحديث الصحيح في مثله ما يفيد أن الفعل نفسه تعذيب للنفس، وهو حرام؛ حيث يقول: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني"؛ فهو نذر لفعل المعصية مباشرة لا بواسطة ترك المباح

الترك عند المحققين فعل من الأفعال الداخلة تحت الاختيار
وأيضا؛ القاعدة أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال أو بالتروك بالمقاصد5
أن الكلام في أصل المسألة إنما هو في المباح من حيث هو مباح متساوي الطرفين2، ولم يتكلم فيما إذا كان ذريعة إلى أمر آخر، فإنه إذا كان ذريعة إلى ممنوع؛ صار ممنوعا من باب سد الذرائع، لا من جهة كونه مباحا,

وأيضا3؛ فقد يتعلق بالمباح في سوابقه أو لواحقه أو قرائنه ما يصير به غير مباح، كالمال4 إذا لم تؤد زكاته،


والثاني:
أنا إذا نظرنا إلى كونه وسيلة؛ فليس تركه أفضل بإطلاق, بل هو ثلاثة أقسام:
قسم يكون ذريعة إلى منهي عنه؛ فيكون من تلك الجهة مطوب الترك.
وقسم يكون ذريعة إلى مأمور به؛ كالمستعان به على أمر أخروي؛ ففي الحديث: "نعم المال الصالح للرجل الصالح" 6، وفيه: "ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلا والنعيم المقيم..." إلى أن قال: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" 1، بل قد جاء أن في مجامعة الأهل أجرا، وإن كان قاضيا لشهوته؛ لأنه يكف به عن الحرام2، وذلك في الشريعة كثير؛ لأنها لما كانت وسائل إلى مأمور به؛ كان لها حكم ما توسل بها إليه.
وقسم لا يكون ذريعة إلى شيء؛ فهو المباح المطلق، وعلى الجملة، فإذا فرض ذريعة إلى غيره؛ فحكمه حكم ذلك الغير، وليس الكلام فيه.


والصواب في الجواب أن تناول المباح لا يصح أن يكون صاحبه محاسبا عليه بإطلاق، وإنما يحاسب على التقصير في الشكر عليه؛ إما من جهة تناوله واكتسابه، وإما من جهة الاستعانة به على التكليفات، فمن حاسب نفسه في ذلك وعمل على ما أمر به؛ فقد شكر نعم الله، وفي ذلك قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} إلى قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32].
أي: لا تبعة فيها، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } [الانشقاق: 7-8].
وفسره النبي -عليه السلام- بأنه العرض2، لا الحساب الذي فيه مناقشة.

وعذاب، وإلا؛ لم تكن النعم المباحة خالصة للمؤمنين يوم القيامة، وإليه يرجع قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6].

حكايات الأحوال بمجردها غير مفيدة في الاحتجاج.

كما كانت عائشة -رضي الله عنها- يأتيها المال العظيم الذي يمكنها به التوسع في المباح، فتتصدق به، وتفطر على أقل ما يقوم به العيش3
كما جاء أن عمر بن الخطاب لما عذلوه في ركوبه الحمار في مسيره إلى الشام، أتي بفرس, فلما ركبه فهملج4 تحته؛ أخبر أنه أحس من نفسه فنزل عنه، ورجع إلى حماره1، وكما جاء في حديث الخميصة ذات العلم، حين لبسها النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرهم أنه نظر إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنه2، وهو المعصوم -صلى الله عليه وسلم- ولكنه علم أمته كيف يفعلون بالمباح إذا أداهم إلى ما يكره، وكذلك قد يكون المباح وسيلة إلى ممنوع؛ فيترك من حيث هو وسيلة،
4 أي: سار سيرا حسنا سريعا.


- ومنها: أنه قد يترك المباح لأنه لم تحضره نية في تناوله؛ إما للعون به على طاعة الله، وإما لأنه2 يحب أن يكون عمله كله خالصا لله، لا يلوي فيه على حظ نفسه من حيث هي طالبة له، فإن من خاصة عباد الله من لا يحب أن يتناول مباحا لكونه مباحا، بل يتركه حتى يجد لتناوله قصد عبادة، أو عونا على عبادة، أو يكون أخذه له من جهة الإذن لا من جهة الحظ؛ لأن الأول نوع من الشكر بخلاف الثاني، ومن ذلك أن يتركه حتى يصير مطلوبا؛ كالأكل والشرب ونحوهما؛ فإنه -إذا كان لغير حاجة- مباح كأكل بعض الفواكه، فيدع التناول إلى زمان الحاجة إلى الغذاء، ثم يأكل قصدا لإقامة البنية، والعون في الطاعة، وهذه كلها أغراض صحيحة، منقولة عن السلف, وغير قادحة في مسألتنا.


، وقد نقل مثل هذا عن عائشة حين أُتيت بمال عظيم فقسمته، ولم تبق لنفسها شيئا, فعُوتبت على تركها نفسها دون شيء، فقالت: "لا تُعنِّيني2، لو كنت ذكرتني لفعلت"3،

والحاصل أن التفقه في المباح بالنسبة إلى الإسراف وعدمه والعمل على ذلك مطلوب، وهو شرط من شروط تناول المباح، ولا يصير بذلك المباح مطلوب الترك، ولا مطلوب الفعل؛

قال الفضيل بن عياض: "جُعل الشر كله في بيت، وجُعل مفتاحه حب الدنيا، وجُعل الخير كله في بيت، وجُعل مفتاحه الزهد"2.

"الزهد حال من أحوال النفس، وهو خلوص القلب من شائبة الحرص على ملاذ هذه الحياة, بحيث لا يستخفه الفرح عند حضورها، ولا يضطرب حسرة عند فواتها،
، وفي الحديث: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه" 3.

3 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 108" من حديث ابن عمر بإسناد صحيح على شرط مسلم، وسيأتي "ص480" وتخريجه هناك أوعب، والله الهادي.
وشرح شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الحديث شرحا رائعا في رسالة "شرح كلمات الشيخ عبد القادر الجيلاني" ضمن المجلد العاشر من "مجموع الفتاوى" على نقص فيها ترى تمامه في "جامع الرسائل" للشيخ محمد رشاد سالم, رحمه الله تعالى


وإذا تعلقت المحبة بالمباح؛ كان راجح الفعل.
فهذه جملة تدل على أن المباح قد يكون فعله أرجح من تركه.

0 التعليقات: