07‏/11‏/2015

الموافقات 7

الموافقات 7

المقدمة التاسعة
من العلم ما هو من صُلْب ومنه ما هو مُلَح العلم لا من صلبه، ومنه ما ليس من صُلْبه ولا مُلَحه؛ فهذه ثلاثة أقسام.
- القسم الأول:
هو الأصل والمعتمد، والذي عليه مَدَارُ الطَّلَب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين، وذلك ما كان قطعيا، أو راجعا إلى أصل قطعي، والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه، ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها3؛ كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]؛ لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين،

وهي: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها، وهي أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها، وسائر الفروع مستندة إليها؛ فلا إشكال في أنها علم أصيل، راسخ الأساس، ثابت الأركان.

فإذًا لهذا القسم3 خواص ثلاث، بهن يمتاز عن غيره:
إحداها:
العموم والاطراد؛
والثانية:
الثبوت من غير زوال؛ فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخا، ولا تخصيصا لعمومها، ولا تقييدا لإطلاقها، ولا رفعا لحكم من أحكامها
والثالثة:
كون العلم حاكما لا محكوما عليه، بمعنى كونه مفيدا لعمل يترتب عليه مما يليق به؛ فلذلك انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل, أو يصوب نحوه, لا زائد على ذلك
فإذًا؛ كل علم حصل له هذه الخواص الثلاث؛ فهو من صلب العلم،

- والقسم الثاني:
وهو المعدود في ملح العلم لا في صلبه1: ما لم يكن قطعيا ولا راجعا إلى أصل قطعي، بل إلى ظني، أو كان راجعا إلى قطعي إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص
روي أن أبا يوسف دخل على الرشيد، والكسائي يداعبه ويمازحه؛ فقال
له أبو يوسف: هذا الكوفي قد استفرغك وغلب عليك.
فقال: يا أبا يوسف! إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي.
فأقبل الكسائي على أبي يوسف، فقال: يا أبا يوسف! هل لك في مسألة؟
فقال: نحو أم فقه؟
قال: بل فقه.
فضحك الرشيد حتى فحص برجله، ثم قال: تلقي على أبي يوسف فقها؟
قال: نعم. قال: يا أبا يوسف! ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق أن دخلت الدار، وفتح أن؟
قال: إذا دخلت طلقت.
قال: أخطأت يا أبا يوسف.
فضحك الرشيد، ثم قال: كيف الصواب؟
قال: إذا قال "أن"؛ فقد وجب الفعل ووقع الطلاق، وإن قال: "إن"؛ فلم يجب ولم يقع الطلاق.
قال: فكان أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي الكسائي1.
__________
1 والصواب في المسألة التفريق بين العارف بالعربية والجاهل بها؛ فيقع إن قال: "أن" بخلاف قوله "إن"، وإن كان جاهلا لم يقع شيء، أفاده الأسنوي في "الكوكب الدري" "ص471".
والقصة التي ساقها المصنف ذكرها ياقوت في "معجم الأدباء" في ترجمة الكسائي "13/ 175-176" عن المرزباني أنها مع أبي يوسف أو محمد بن الحسن على الشك.
وكتب "م" هنا في الحاشية: "السر في هذا أن "إن" بالكسرة شرطية؛ فيصير الطلاق معلقا، وبالفتح مصدرية؛ فيصير مدخولها علة لوقوع الطلاق".
فهذه المسألة جارية على أصل لغوي لا بد من البناء عليه في العلمين.
فهذه أمثلة ترشد الناظر إلى ما وراءها، حتى يكون على بينة فيما يأتي من العلوم ويذر؛ فإن كثيرا منها يستفز الناظر استحسانها1 ببادئ الرأي، فيقطع فيها عمره، وليس وراءها ما يتخذه معتمدا في عمل ولا اعتقاد، فيخيب في طلب العلم سعيه، والله الواقي.
ومن طريف الأمثلة في هذا الباب ما حدثناه بعض الشيوخ: أن أبا العباس بن البناء سئل، فقيل له: لِمَ لم تعمل إن في {هَذَانِ} من قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} الآية [طه: 63]؟
فقال في الجواب: لما لم يؤثر القول في المقول؛ لم يؤثر العامل في المعمول.
فقال2 السائل: يا سيدي! وما وجه الارتباط بين عمل إن وقول الكفار في النبيين؟
فقال له المجيب: يا هذا! إنما جئتك بنوارة يحسن رونقها، فأنت تريد أن تحكها بين يديك، ثم تطلب منها ذلك الرونق, أو كلاما هذا معناه3!

والقسم الثالث:
وهو ما ليس من الصلب، ولا من الملح: ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني وإنما شأنه أن يكر4 على أصله أو على غيره بالإبطال

كالإغراب باستجلاب غير المعهود، والجعجعة بإدراك ما لم يدركه الراسخون، والتبجح بأن وراء هذه المشهورات مطالب لا يدركها إلا الخواص، وأنهم من الخواص... وأشباه ذلك مما لا يحصل منه مطلوب

ومن هنا لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد؛ حتى يكون ريان من علم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب3، فإنه إن كان هكذا؛ خيف عليه أن ينقلب عليه ما أودع فيه فتنة بالعرض، وإن كان حكمة بالذات، والله الموفق للصواب

0 التعليقات: