15‏/11‏/2015

الموافقات 8

الموافقات 8




المقدمة العاشرة
إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية؛ فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا، ويتأخر العقل فيكون تابعا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل1،




المقدمة الحادية عشرة
لما ثبت أن العلم المعتبر1 شرعا هو ما ينبني عليه عمل؛ صار ذلك منحصرا فيما دلت عليه الأدلة الشرعية، فما اقتضته؛ فهو العلم الذي طلب من المكلف أن يعلمه في الجملة، وهذا ظاهر؛ غير أن الشأن إنما هو في حصر الأدلة الشرعية، فإذا انحصرت؛ انحصرت مدارك العلم الشرعي، وهذا مذكور في كتاب الأدلة الشرعية

المقدمة الثانية عشرة
من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين1 به على الكمال والتمام.


وقد قالوا: "إن العلم كان في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال".
وهذا الكلام يقضي بأن لا بد في تحصيله من الرجال؛

وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات ثلاث:
إحداها:
العمل بما علم؛ حتى يكون قوله مطابقا لفعله، فإن كان مخالفا له؛ فليس بأهل لأن يؤخذ عنه،

والثانية:
أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم؛ لأخذه عنهم، وملازمته لهم؛ فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا كان شأن السلف الصالح.
فأول ذلك ملازمة الصحابة -رضي الله عنهم- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذهم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائنا ما كان، وعلى أي وجه صدر؛ فهم1 فهموا مغزى ما أراد به أولا2 حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذي لا يُعارض، والحكمة التي لا ينكسر قانونها، ولا يحوم النقص حول حمى كمالها، وإنما ذلك بكثرة الملازمة، وشدة المثابرة.
وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية؛ حيث قال: يا رسول الله! ألسنا على حق، وهم على باطل؟
قال: "بلى " .
قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟
قال: "بلى " .
قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟
قال: "يابن الخطاب! إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا " .
فانطلق عمر ولم يصبر، متغيظا، فأتى أبا بكر؛ فقال له مثل ذلك.
فقال أبو بكر: إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا.
قال: فنزل القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه؛ فقال: يا رسول الله! أَوَفَتح هو؟ قال: "نعم " . فطابت نفسه ورجع1.
فهذا من فوائد الملازمة، والانقياد للعلماء، والصبر عليهم في مواطن الإشكال؛ حتى لاح البرهان للعيان.
وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين: "أيها الناس! اتهموا رأيكم، والله؛ لقد رأيتني يوم أبي جندل2 ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرددته"3، وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال، وإنما نزلت سورة
الفتح بعد ما خالطهم الحزن والكآبة؛ لشدة الإشكال عليهم، والتباس الأمر، ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن فزال الإشكال والالتباس.

والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه3، والتأدب بأدبه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كل قرن،


وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله؛ فلذلك طريقان:
أحدهما:
المشافهة، وهي أنفع الطريقين وأسلمهما؛ لوجهين2:
الأول:
خاصية جعلها الله تعالى بين المعلم والمتعلم، يشهدها كل من زاول العلم والعلماء؛ فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب، ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة، وحصل له العلم بها بالحضرة, وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادي من قرائن أحوال، وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال، وقد يحصل بأمر غير معتاد، ولكن بأمر يهبه الله للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم، ظاهر الفقر بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه.
وهذا ليس يُنكر؛ فقد نبه عليه الحديث الذي جاء: "إن الصحابة أنكروا أنفسهم عندما مات رسول الله, صلى الله عليه وسلم"3، وحديث حنظلة الأسيدي؛ حين شكا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم إذا كانوا عنده وفي مجلسه كانوا على حالة يرضونها، فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم؛ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم تكونون كما تكونون عندي؛ لأظلتكم الملائكة بأجنحتها" 1.

وقد قال عُمر بن الخطاب: "وافقت ربي في ثلاث"2، وهي من فوائد
مجالسة العلماء؛ إذ يُفتح للمتعلم بين أيديهم ما لا يفتح له دونهم، ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم، وتأدبهم معه، واقتدائهم به؛ فهذا الطريق نافع على كل تقدير.
وقد كان المتقدمون لا يكتب منهم إلا القليل، وكانوا يكرهون ذلك، وقد كرهه مالك1؛ فقيل له: فما نصنع؟ قال: تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم، ثم لا تحتاجون إلى الكتابة، وحكي عن عمر بن الخطاب كراهية الكتابة، وإنما ترخص الناس في ذلك عندما حدث النسيان، وخِيفَ على الشريعة الاندراس.
الطريق الثاني:
مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين، وهو أيضا نافع في بابه؛ بشرطين:
الأول:
أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله؛ ما يتم له به النظر في الكتب،
والشرط الآخر1: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد2 به من غيرهم من المتأخرين،
، وروي عن النبي, صلى الله عليه وسلم: " أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض" 2، ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير، وتكاثر الشر شيئا بعد شيء

2 أخرجه الدارمي في "السنن" "2/ 114"، ونعيم بن حماد في "الفتن" "1/ 98-99/ رقم 233، 235"، من حديث أبي عبيدة، والطيالسي "رقم 228"، ومن طريقه أبو يعلى في "المسند" "2/ 177/ رقم 873"، والطبراني في "الكبير" "1/ رقم 367 و20/ رقم 91"، والبيهقي في "السنن" "8/ 159" و"الدلائل" "6/ 340" و"الشعب" "5/ 16-17/ رقم 5616" من حديث معاذ وأبي عبيدة، وأحمد "4/ 273"، ونعيم بن حماد في "الفتن" "رقم 234" من حديث حذيفة، والحربي -كما قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 251"- من حديث أبي ثعلبة، جميعهم رفعوه بألفاظ مقاربة. وأخرجه نعيم "رقم 236" موقوفا على عمر، و"رقم
237، 238"، من قول كعب، و"رقم 239" من مذاكرة أبي عبيدة وبشير بن سعيد، والداني في "الفتن" "رقم 334" عن عبد الرحمن بن سابط مرسلا. وفي أسانيدها مقال، ولها شاهد صحيح -عدا جملة باطلة في آخره- من حديث حذيفة، انظره في "السلسلة الصحيحة" "رقم 5"، وانظر: "ضعيف الجامع" "رقم 1578"، وقال "ماء": "عضوض؛ أي: يصيب الرعية فيه عسف وظلم كأنهم يعصفون عضا، والعضوض من أبنية المبالغة، وفي رواية: ملوك عضوض, وهو جمع عض بالكسر، وهو الخبيث الشرس، أي: سيئ الخلق، وفي حديث أبي بكر, رضي الله عنه: "وسترون بعدي ملكا عضوضا" ا. هـ.

0 التعليقات: