29‏/07‏/2009

ضرورة الفن - جمل مختارة 3

الانطباعية :

كانت الانطباعية أيضا حركة ساخطة . كانت هجوما شنه رجال موهبون علي ما تصف به الفن الأكاديمي الرسمي من ادعاء وصلف .
وقد نشر فرانسيس جوردان تحت عنوان " عشرون عاما من الفن العظيم ، أو دروس في الحماقة " مجموعة من اللوحات التي حصلت علي الجوائز الرسمية في فرنسا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ، وألحق بالكتاب قائمة بأسماء الفنانين الفرنسيين الذين عاشوا في الفترة نفسها ، ولم يحصلوا علي جوائز ولم تعترف بهم الدوائر الرسمية . وتضم القائمة أسماء ديجا وسيسلي وبيسارو وماتيس وروو ودوفي وسيزان ومونيه ورنوار وروسو وجوجان وتولوز لوتريك وبونار.

وهؤلاء هم الذين عاش فنهم بعد عصرهم ، في حين أن مجموعة لوحات الرسامين الأكاديميين أصحاب الحظوة والرعاية لا تعدو أن تكون أكداسا من الادعاء المتغطرس والتفاهة المتعجرفة والرياء المتخم.

هذا النوع من الفن الأكاديمي بكلاسيكيته الفارغة ، واقتباسه للأشكال القديمة التي فقدت مضمونها منذ أمد طويل وبمثالية مصنوعة حسب الطلب وبعاطفته الزائدة التي تندي العين بانفعال زائف ، علي حين تكشف بخبث عن نهد أو ساق ، هذا النوع من الفن كان من أبشع منتجات العالم الرأسمالي الذي يسير في طريق الاضمحلال ، فهو مؤلف من أكاذيب وعبارات فارغة وتضرعات مرائية مستمدة من تراث العصر الكلاسيكي وعصر الرينسانس ، في زمن كان فيه الوقار الزائد يمضي متبجحا زانيا مع التجارة المكشوفة العارية ، ولم يكن ذلك يحدث في الفن وحده ، بل وفي كل مجال : فالسياسي الرجعي الذي يعلن في عصر يوم من أيام الأحد تمسكه " بالحرية والاخاء والمساواة" بينما يلف علم الثورة المثلث الالوان حول سطه كالمنشفة ، لا يختلق في وقاحته إلا من حيث الدرجة مع الرسام الذي يستعير الاشكال والظلال من العصر الكلاسيكي حتي يخدع الجمهور عن طبيعة العالم الذي يعيش فيه.

فأي شيئ أشد انحلالا من أن يتصرف المرء في عالم اختل كل مافيه ، وكأنما كل شيئ علي ما يرام ، وكأنما أهم ما في الوجود أن نكرر بمختلف العبارات الطنانة ما سبق للكلاسيكيين أن عبروا عنه بكل قوة وأصالة ، إذ كان هو تجربة عصرهم وخبرته.

وضد هذا التزييف الفني الذي يرصع صدره بالأوسمة ويخفي عورته بأغصان الغار أعلن الانطباعيون ثورتهم

وعندما كتب كوربيه - الذي أسهم فيما بعد في كوميون باريس - رسالته المعتزة إلي وزير الفنون الجميلة يرفض فيها وسام اللجيون دونير الذي منح أياه ، كان كمن يعزف النغمة الأولي في لحن طويل.
"لم يكن يسعني قبوله في أي وقت . ومن الاولي ألا يسعني قبوله اليوم حين تتكاثر الخيانة في كل ميدان ، وحين لا يملك الضمير الإنساني الا أن يعتصره القلق لكل هذه الأنانية وهذا الغدر ... وضميري كفنان لا يمكن أن يرضي بقبول منحة تفرضها علي يد الحكومة فليست الدولة مؤهلة للحكم في شئون الفن "

لقد اتجهت الانطباعية – كاطبيعية في الأدب ، وهي معاصرتها تماما – بأبصارها إلي العالم المعاصر المحيط بها ، تتأمل الأشياء العادية باهتمام صريح ، بلا خوف أو تكتم ، حتي إذا كانت تلك الاشياء قبيحة أو شوهاء

إن الرسام اليوم لا يقول : انظر إلي هذه اللوحات الخالية من الخطأ ، بل يقول : انظر إلي هذه اللوحات الصادقة

....

لقد أدرك سيزان أن الاسلوب الذي أصبح سائدا هو أسلوب لترقيع ، وأن أحدا لم يعد ينظر إلي اللوحة في مجموعها . لقد ضاعت تلك الوحدة الرائعة ، لا في الفن وحده بل وفي الواقع الاجتماعي أيضا .

وكان دلاكروا الذي لم تخمد فيه بعد نيران الثورة ، والذي كانت أشجانه الرومانسية تعبر عن احساس ميق بالانسانية المكافحة ، كان آخر الرساميين الذين تجلت فيهم النظرة إلي الانسان كحودة مترابطة .

...

وقد صاغ سيزان المبدأ الجديد للانطباعية أكثر من مرة :
" لا يعدو الفنان أن يكون جهاز تسجيل للمدركات الحسية .. لا نظريات وإنما عمل .. فالنظريات تفسد الناس .. إنما نحن فوضي لامعة . أنا آتي قبل موضوعي وأضيع فيه ......
الانطباعية ماذا تعني ؟ إنها المزج البصري بين الالوان ، هل تفهمني ؟ انها تفكيك الالوان علي اللوحة ثم إعادة تركيبها في العين.."

إن الانطباعية التي تفكك العالم وتحوله إلي ضوء وألوان ، وتسجله علي أنه نتيجة للادراك الحسي ، أصبحت بشكل متزايد تعبيرا عن علاقة بالغة التعقيد بالغة التداخل بين الذات والموضوع . فالفرد الذي فرضت عليه العزلة ، والذي تدور أفكاره حول ذاته ، إنما يعرف العالم كمجموعة من المؤثرات العصبية والانطباعات والاحوال النفسية " فوضي لامعة " كتجربة خاصة وأحاسيس شخصية ان الانطباعية في الرسم تقابل الوضعية في الفلسفة ...فهذه بدورها تسمح بألا يكون العالم أكثر من تجربة خاصة وأحاسيس شخصية ، وليس واقعا موضوعيا موجود بشكل مستقل عن حواس الفرد .

إن عنصر السخط في الانطباعية يحد من أثره عنصر آخر هو عنصر الفردية الا أدرية المراوغة غير المقاتلة ، هو موقف المتفرج الذي لا تعنيه غير انطباعاته والذي لا يعتزم تغيير العالم ، والذي لا تزيد بقعة الدم في نظره عن أن تكون بقعة لون ..
وهكذا كانت الانطباعية بمعني من المعاني ، عرضا من أعراض الاضمحلال، من أعراض تفتت العالم وانعدام إنسانيته

0 التعليقات: