قوانين الطبيعة البشرية 48
التفسیر: في اللحظة التي تركت فیها الأم ابنها أنطون وحیدًا في تاغنروغ شعر هذا الشاب الصغیر بأنه حبیس محاصر، وكأنه قد قذف به إلى السجن، وأجبر على العمل قدر استطاعته؛ فضلًا عن دراسته، وبات عالقًا في هذه البلدة المعزولة المملة إلى أقصى الحدود، ودون أن تكون حوله مجموعة تعیله وتسانده؛ لیعیش في زاویة غرفة صغیرة.
وفي اللحظات القلیلة التي یختلي فیها بنفسه لم تنخر رأسه أفكار الشعور بالمرارة بسبب المصیرِ الذي آل إلیه، والطفولةِ التي عاشها، إلا أنه بمرور الأیام، وأسبوعًا بعد آخر لاحظ شیئًا شدید الغرابة؛ فقد أحب فعلًا عمله في الدروس الخصوصیة، مع أن أجره كان بخسًا، وكان دائمًا یطوف في منازل البلدة، لقد دأب أبوه على إخباره بأنه كسول، حتى أصبح یظن أنه فعلًا كسول، لكنه الآن لم یعد متیقنًا من ذلك، وكان كل یوم یقبل علیه یمثل تحدیًا له، لیجد المزید من العمل، ویجد لنفسه ما یقتات به. وكان ینجح في ذلك.
فلم یكن كأنه دودة بائسة لا تتحرك إلا بالضرب، أضف إلى ذلك أن العمل كان طریقتَه للخروجِ من نفسه، وإغراقِ ذهنه بمشكلات طلابه.
وأخذته الكتب التي قرأها إلى عالم بعیدٍ جدا عن بلدته، وملأت عقله بأفكار شیقة، بقیت راسخة فیه بقیة أیامه، ولم تكن بلدته سیئة للغایة؛ فكل متجر فیها، وكل منزل، كان فیه شخصیات غریبة؛ فكانت تمدُّه بمادة غنیة وافرة لقصصه التي یكتبها، وكذلك زاویة الغرفة التي كان یعیش فیها؛ فتلك كانت مملكته، وابتعد عن شعوره بالحبس، وأخذ یشعر بالتحرر.
فما الذي تغیر فعلیا؟! حتمًا لم تتغیر ظروفه، ولم تتغیر بلدته، ولم تتغیر زاویته في الغرفة الصغیرة، لكن ما تغیر هو موقفه، فذلك ما جعله منفتحًا للتجارب الجدیدة في الحیاة، ومنفتحًا لاحتمالاتها، وعندما شعر بذلك، أراد المضي بذلك الإحساس إلى آفاق أبعد، وكانت أعظم عقبة باقیة أمام هذا الإحساس بالحریة هي والده؛ فمهما حاول كان یبدو أنه لن یتخلص من مشاعره
العمیقة بالمرارة تجاه والده، لقد كان الأمر وكأنه یحس بضرب والده، ویسمع تقریعه الحاد الذي لا ینتهي.
وفي محاولة أخیرة منه حاول أن یقوم بتحلیل شخصیة والده، وكأنه شخصیة من شخصیات قصصه، وأدى به ذلك إلى التفكیر في والد والده، وفي كل الأجیال التي مرت بها عائلة تشیخوف، وعندما نظر في طبیعة والده المتقلبة وتصوراته الطائشة استطاع أن یفهم كیف أن أباه كان یشعر حتمًا بأنه حبیس ظروفه، واستطاع أن یفهم السبب في تحوله إلى معاقرة الخمر والاستبداد بعائلته، لقد كان أبوه عاجزًا، كان ضحیة أكثر منه ظالمًا، وهذا الفهم لأبیه مهد الطریق لاندفاعه المفاجئ نحو الحب بلا شروط أو قیود الذي شعر به ذات یوم تجاه والدیه، لقد بات یشعُّ بهذه العاطفة، فقد شعر أخیرًا بالتحرر الكامل من مشاعر الاستیاء والغضب، وابتعدت عنه أخیرًا المشاعر السلبیة من الماضي، وبات بإمكان عقله الآن أن یكون منفتحًا تمامًا، وكان هذا الإحساس مبهجًا للغایة لدرجة أنه كان علیه أن یشاطره مع إخوته، لیحررهم من المشاعر السلبیة على نحو ما تحرر هو.
وكان ما أوصل أنطون إلى هذه المرحلة هو الأزمة التي واجهها؛ إذ تُرِك وحیدًا في تلك السن الصغیرة، وقد مر بأزمة أخرى مشابهة بعد نحو ثلاثین سنة من ذلك، عندما أصابه الاكتئاب بسبب تفاهة زملائه من الكتَّاب، وكان الحل الذي ارتآه، هو أن یعید صنع ما حصل معه في بلدته القدیمة، لكن بطریقة عكسیة؛ فسیكون هو من یهجر الآخرین، ویجبر نفسه على أن یكون وحیدًا وضعیفًا، وبهذه الطریقة یمكنه أن یعید تجربة الحریة والتعاطف التي كان شعر بها في تاغنروغ، وكانت أزمته الأخیرة: الموت المبكر بسبب السل، فأبعد عن نفسه الخوف من الموت، وأبعد مشاعر المرارة التي تصیب المرء إذا علم بأن أیام حیاته أمست قصیرة، واستمر یعیش بكامل طاقته، وهذه الحریة النهائیة والمطلقة أكسبته تألقًا كان یشعر به معظم من یلتقیه في تلك المرحلة.
الاستنتاج: تعد قصة أنطون تشیخوف نموذجًا لما نواجهه جمیعًا في حیاتنا؛ فنحن نحمل معنا صدمات وآلامًا علقت بنا في طفولتنا المبكرة، وفي حیاتنا الاجتماعیة، وكلما تقدمنا في العمر نقوم بمراكمة ما یواجهنا من إحباط وإهانة، كذلك یلاحقنا غالبًا إحساس بانعدام القیمة، وبأننا لا نستحق فعلًا الأشیاء الجیدة في هذه الحیاة، وجمیعنا لدینا لحظات یغمرنا فیها شك كبیر بأنفسنا، ویمكن أن تودي بنا هذه العواطف إلى أفكار وسواسیة تسیطر على عقولنا، فتجعلنا نجتزئ تجربتنا فنقلصها ونفرط بها كي نتجاوز قلقنا وإحباطنا، إنها تجعلنا نتحول إلى معاقرة المسكرات، أو إدمان أي عادة أخرى، لتخفیف الألم، ودون إدراك منا ترانا نتخذ موقفًا سلبیا متخوفًا من الحیاة، ویغدو ذلك سجنًا نفرضه على أنفسنا، لكن الأمر یجب ألا یمضي على هذا النحو؛ فالحریة التي وجدها أنطون تشیخوف أتته من اختیاره، إنها طریقة أخرى نظر بها إلى العالم: لقد غیَّر موقفه، وفي مقدورنا اتباع السبیل ذاته.
وتأتینا هذه الحریة أساسًا من تبنینا روح الأریحیة السمحة تجاه الآخرین وتجاه أنفسنا، فإذا قبلنا بالآخرین، بأن نفهمهم، أو حتى نحبهم إذا أمكننا ذلك بسبب طبیعتهم البشریة؛ فبوسعنا تحریر عقولنا من العواطف الوسواسیة والتافهة ضیقة الأفق؛ فبإمكاننا التوقف عن الاستجابة لكل ما یفعله الناس أو یقولونه، وبإمكاننا أن نحتفظ لأنفسنا بمسافة معینة تفصلنا عن أخذ كل شيء على محمل شخصي، وبذلك نخلي مساحتنا الذهنیة لنتابع شؤونًا أكثر أهمیة، فعندما نشعر بالأریحیة تجاه الآخرین فإنهم یشعرون بالانجذاب إلینا، ویرغبون في مضاهاة أریحیتنا، وعندما نشعر بالأریحیة تجاه أنفسنا لا نعود نشعر بالحاجة إلى إظهارالانحناء والخضوع لتصویر تواضع زائف فینا، في الوقت الذي نكون فیه في بواطننا مستائین من عدم نجاحنا في الحیاة مقابل نجاح من ننحني له، فعن طریق العمل وعن طریق حصولنا بأنفسنا على ما نحتاجه، دون الاتكال على الآخرین، یمكننا أن نقف شامخین، وندرك قدراتنا البشریة الكامنة؛ ففي استطاعتنا التوقف عن
استنساخ العواطف السلبیة حولنا، وإذا شعرنا بطاقة البهجة في موقفنا الجدید، فسنرغب في المضي فیه قدر ما نستطیع.
وبعد مرور سنوات من خروج أنطون من بلدته وفي رسالة من أنطون إلى صدیق له حاول أن یلخص له فیها تجربته في بلدة تاغنروغ، مشیرًا إلى نفسه بضمیر الغائب: اكتب كیف أخرج هذا الشاب الصغیرُ العبدَ من نفسه شیئًا فشیئًا؛ وكیف استیقظ في صباح یوم جمیل، لیجد أن الدم الذي یجري في عروقه لم یعد دم عبد؛ بل هو دم كائن بشري حقیقي
أعظم اكتشاف اكتشفه هذا الجیل: هو حقیقة أن الكائنات البشریة بإمكانها تغییر حیاتها، بتغییر مواقفها الذهنیة.
ویلیام جیمس
مفاتیح للطبیعة البشریة
نحب نحن البشر، أن نتصور أننا نملك معرفة موضوعیة بهذا العالم، ومن المسلَّمات
عندنا أن ما نلاحظه یومیا هو الواقع، وهذا الواقع هو نفسه تقریبًا عند كل الناس، إلا أن ذلك وهم؛ فلیس هناك من اثنین یریان هذا العالم أو یعیشان فیه بالطریقة نفسها، وما نلاحظه ونراه إنما هو نسختنا الشخصیة من الواقع، واقع أنشأناه بأنفسنا، ویعدُّ إدراكنا هذا الأمر خطوةً في غایة الأهمیة في فهمنا الطبیعة البشریة.
فالعالم موجود على ما هو علیه، وما فیه من أشیاء وأحداث: لا هي جیدة ولا هي سیئة، لا هي صحیحة ولا هي خاطئة، لا هي بشعة ولا هي جمیلة. بل نحن بالمنظور الخاص لكل منا نضیف
إلى الأشیاء والناس ألوانًا أو نمحوها منهم، فینصب اهتمامنا إما على العمارة القوطیة الجمیلة، أو على السیاح المزعجین؛ فنحن بطریقة تفكیرنا یمكننا أن نجعل الآخرین یستجیبون لنا بطریقة ودیة أو غیر ودیة؛ بالاعتماد على قلقنا منهم، أو انفتاحنا علیهم؛ فنحن من یصوغ كثیرًا من الواقع الذي ندركه، بما تملیه علینا مزاجاتنا وعواطفنا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق