21‏/12‏/2014

إستراتيجية الاستعمار والتحرير 24

إستراتيجية الاستعمار والتحرير 24



من الكارثة إلى العقدة :

       وليس من شك بعد هذا أن فيتنام كانت كارثة حقيقية وهزيمة ساحقة ومخزية لأمريكا , رجت كل فكرها الاستراتيجى ووجودهما وكيانها رجا , وهزت مكانتها السياسية العالمية حتى النخاع , وذلك فضلاعن حياتها الداخلية التى أصيبت بتقلصات حادة إلى حد التشنجات فرضت عليها أن تعيد النظر فى كل كيانها وذاتها ومعطياتها , ومن ثم مسارها ومسيرتها ومصيرها .


      فالدولة النووية العظمى الأولى فى العالم والتاريخ , التى خرجت عاتية عادية لتدخل دولة صغيرة متخلفة ولكنها مناضلة تحت سيطرتها , بل ولتعيدها الى العصر الحجرى كذا بجبروتها التكنولوجى الفائق , عادت هى مهزومة عاجزة منسحبة بعد حرب شبه عقدية استنزافية خاسرة مثلما هى ظالمة , لتخرج بعدها من المنطقة إلى الأبد ولتدخل التاريخ بأول هزيمة لها فى تاريخها وكذلك بأول هزيمة تقليدية لقوة نووية فى التاريخ .

     أدركت الولايات لأول مرة ربما أن للقوة حدودا , حتى القوة النووية , وأن حدود القوة تفرض عليها التراجع عن دور شرطى العالم وعن مغامرة الصدام النووى بين القطبين .

 وتعبيرا عن هذا تحولت سياسة أمريكا إلى أن تتولى الدول الصديقة والحليفة حروبها وصراعاتها المحلية بنفسها بدل أن تنوب هى عنهم فيها , بحيث لا تتورط أو تقدم إلا التأييد المعنوى وبعض المادى لا أكثر .

 فالحروب الأسيوية يقوم بها الأسيويون , والحروب المحلية تترك لأصحابها وهكذا – مبدأ نيكسون . ومجمل القول فإن سياسة الوفاق جاءت , كما عبر جيمز ريستون بدقة , ملازمة للانحسار الأمريكى وإخراجها لبقا للتقوقع الأمريكى نتيجة عقدة فيتنام .

       جاء مشروع أنبوب الغاز الطبيعى السيبيرى الهائل من أعماق الاتحاد عبر شرق أوروبا إلى غربها , حيث يرسم خطا محوريا عرضيا أساسيا متعدد الفروع والنهايات , يقطع عبر الكتلتين ويتعامد على الستار الحديدى , ويكاد يتحدى الاستقطاب الثنائى أو يجعل منه سخرية سياسية استراتيجية بمعنى ما إلى حد أو اخر . ويكفى دليلا أو مؤشرا فى هذا المعنى أن أمريكا تعارض المشروع بشدة على اساس أنه يضع إمدادات الطاقة الأوروبية تحت رحمة التهديد السوفيتى لعشرات السنين فى المستقبل , بينما أصرت دول أوروبا الغربية على أنه لا يهدد أمنها وإنما يؤمن مصالحها , ثم مضت فى تنفيذ المشروع فى وجه المقاومة الأمريكية أو غير عابثة بها .


        الوفاق : الذى هو بالمناسبة ليس وفاقا بالمعنى الديبلوماسى الفنى الصارم بل مجرد انفراج , الوفاق لا يعنى التقارب بين القطبين المتضادين بقدر ما يعنى التفاهم بينهما على ألا يدعا للصراع أن يؤدى إلى الصدام بينهما .

        الوفاق يسبعد الان (الضرب تحت الحزام) مثلما استبعد التعايش من قبل (الضرب فى الرأس) . وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على أن الصراع قد اقترب بالعملاقين من حالة من الاعياء والجمود والمضاربة . إلا أن الوفاق لا يوقف الصراع , وإنما فقط يضع حدا للمغالاة فى إرهاق المتصارعين لحساب ولصالح المتفرجين .



       ولك يكن غر يبا لذلك أن يأتى رد فعل الاخرين سواء داخل الكتل أو خارجها مضادا للوفاق رغم اختلاف مواقعهم الاساسية . فالكل تقريبا رأى فيه قطعة من انتهازية الأقوياء وصيغة ملفقة لإخضاع علاقات وصراعات الضغار لضبط علاقات وصراعات الكبار , بينما تحدث بعض الساخرين الساجعين عن نفاق الوفاق وانبعاج الانفراج وفى العالم الثالث , خاصة فى الصين , ذهب كثيرون إلى اعتباره تواطؤا سافرا بين القطبين (ويالتا ثانية) , (يالتا الحرب الباردة) تستهدف تقسيم العالم الثالث إلى مناطق نفوذ جديدة مثلما استهدفت يالتا الأولى بعد الحرب الساخنة اقتسام أوروبا .

0 التعليقات: