12‏/05‏/2016

روح السياسة 11

روح السياسة 11


   ينضم إلى تلك الحروب بتقدم الحضارة حروب اقتصادية ليست أقل منها قتلا للنفوس .

   لقد أصدرت أوربا منتجاتها إلى الشرق زمنا طويلا ، والآن نرى الحالة تتبدل بالتدريج ، فبعد أن كان الشرق بلاد استهلاك شرع يكون مركز إنتاج واسع ،

    وهو الذى يستولى على أسواقنا التجارية بمنجاته الصناعية والزراعية التى ينتجها عمال يكتفون لحاجتهم القليلة بأجور هى دون أجور العمال الأوربيين كثيرا.

   ولا ننكرأن الصراع بين الشرق والغرب فى الوقت الحاضر يقتصر على بعض المنتجات الصناعية والزراعية ، ولكن الذى نقوله هو أن مدى هذا الصراع سيمتد سريعا ،

 فأبناء الهند واليابان والصين يهددوننا بمزاحمتهم لنا فى جميع الأسواق التجارية ، وهم يصنعون اليوم – مستعينين بمثل آلاتنا – ما كانت أوربا تحتكره صناعته .

   وعندما بحثت فى هذه النظريات منذ خمس وعشرين سنة قالت صحف العالم ولا سيما جرائد الهند الانجليزية – مع اعترافها بصحة آرائى – إن عمال الشرق لا يلبثون أن يكونوا ذوى حاجات تحملهم على الاقتداء بعمال الغرب فى مطالبهم ، وقدةنسيت تلك الصحف كعادتها أن خلق أكثر تلك الشعوب النفسى ثابت ثباتا لا تحول فيه ، فمع أن الصينين شرعوا فى الهجرة إلى أمريكا منذ وقت بعيد لم تغير حياة النفائس والترف الامريكية طراز معيشة أحد منهم .    

 إن حضارتنا لا تلائم مزاج الشعوب الشرقية النفسى فلا ثؤثر فيه .

   ولا تظنن أن أوربا تنعزل بإقامتها حواجز كثيفة من المكوس الجمركية عن بقية العالم ، فتقدر على التخلص من مزاحمة الشرق ، فذلك التخلص لا يتسير لها إلا بانتاجها ما تحتاج إليه من الغذاء والدواء يعوزها لتكاثر سكانها كما هو معلوم .

   ولقد أخبر علماء الاقتصاد – وقد شاهدوا أكثر دول أوربا يعدل عن إنتاج ما يحتاج إليه من الغذاء – بأن انعزال أوربا يؤدى إلى جوعها ومن الطبيعى أن اخوف من الموت جوعا يدفع تلك الدول إلى خفض المكوس الجمركية ولكن بأى شئ تدفع ثمن المنتجات الغذائية فى زمن تعجز فيه عن إصدار مصنوعاتها ؟

  ولو كان النزاع بين الشرق والغرب عبارة عن نزاع عقلى بين الطبقات العليا لما تطرق إلينا شك فى نتيجته ، ولكن ما العمل والنزاع المذكور نزاع اقتصادى بين الطبقات الوسطى المتساوية فى مزاجها العقلى والمتفاوتة فى احتياجاتها ، وهل من ريب فى أن النجاح سيكون حليف الجهة ذات الاحتياجات الضعيفة ؟

  على أن تلك الملاحظات تخص المستقبل البعيد ، وما عندنا من المشاكل الحاضرة يجعلنا نترك أمر البحث فى المشاكل المستقبلة .

  لقد رأيت فى يوم شتاء شيخا كبيرا لطيف المنظر حاد النظر يدخل بيتى وبيده نسخة من الطبعة التاسعة لكتابى " روح التربية " فابتدرنى قائلا :

   " أجدر بفرنسا ألا تواظب على برنامجها الحاضر فى التربية ، فالجامعات ستقودها إلى أسفل درجات الانحطاط ، إننى عضو فى مجلس الشيوخ وفى أكاديميا العلوم وأكاديميا الطب وأستاذ سابق فى الجماعة ، أى أننى كما ترى ذو مناصب كثيرة يمكننى أن ألفت فيها النظر إلى المبادئ والأفكار التى عرضتها فى كتابك ، فأطلب إليك أن تجهزنى بملاحظات ومذكرات ومعلومات أستعين بها على وضع خطبة مقنعة فى مجلس الشيوخ " . 

   يجب لتغيير طرقنا التعليمية تغيير نفسية رؤساء جامعاتنا أولا ثم نفسية أساتذتنا وأفكار الأبوين والطلاب ثانيا ، وقد عدل ذلك العضو الشهير عن خطبته عندما تبينت له هذه الحقائق .

    ولا أحد يجهل أن الرجل الذى يود أن ينجح فى معركة الحياة يجب عليه أن يجدد بنفسه تعليمه ، وأن يخصص القسم الثانى من عمره لتبديد ما اكتسبه فى القسم الأول من أوهام وأضاليل وطرق فى التفكير .
   طرق التعليم لا برا
مجها هى التى يجب تغييرها ، وعيب تربيتنا عدم تطورها بحسب الأحوال ، قال الوزير السابق المسيو ( هانوتو ) : " تقوم التربية الفرنسية على مزاولة الكتب ، ففى مدارسنا يبلغ الطلاب الخامسة والعشرين من عمرهم ، تبلى على مقاعد الدراسة سراويلهم وهم لا يعرفون غير تكرير ما استظهروه من الدروس التى لا تلائم مقتضيات الحياة ، وهكذا تنقضى أعمار صفوة الأمة فى حفظ المصنفات عن ظهر قلب وتمحيص الصيغ المبتذلة .

   لا يسعى أساتذتنا فى منح الطلاب صفات خلقية تقوم عليها قيمة الرجل الحقيقى فى معترك الحياة .

  عبارة من كتاب المسيو ( شابى ) الذى سماه " الهند البريطانية " لبيان الفرق بين التعليم العقلى والأخلاقى عند الانجليز ، وإليكها : " لا يبالى الهندوس بغير أمور الذهن والقريحة ، واما الانجليز فيعبأون على الخصوص بالخلق الذى تقاس به قيمة الرجل الأدبية ، وبالخلق يقصدون ثبات الجأش واتؤدة عند العزم ، والسرعة عند السير ، والعناد عند المقاومة ، والحزم عند الخطر ، ومعرفة الواجب نحو الفرد والأمة ، ولا يعنى ذلك أنهم لا ينظرون إلى أمور الذكاء والخطب البليغة ، والمقالات الفصيحة ، وإنما تجئ عندهم فى الدرجة الثانية .

   أشير على القارئ الذى يود أن يعرف الطرق والأساليب التى ترسخ بها المسائل فى النفس بأن يزور معاهد التعليم فى ألمانيا ، ويقرأ كتاب ( بيز ) الذى بحث فيه نظام التعلم فى أمريكا .


   تقوم التربية والتعليم فى أمريكا على مساعى الأفراد ، وفيها يتسع نظام التعليم حسب عمر الطالب ، وللتجارب العملية المقام الأعلى فى معارفها وفى آدابها التى تدرس بواسطة الرسوم والصور ، وفيها يدرب الطلاب على السير الطليق كأنه ليس فى العالم غيرهم ، وفيها يتلقون العلوم العملية والنظرية مستعينين بالاجهزة والآلات المادية التى يستنبطون بها أسرار الحوادث ونواميسها .

   وما يسود التعليم الأمريكى يسود التعليم الانجليزى " ليست غاية التعليم الرئيسية اكتساب عدد من المسائل ، بل تعويد الطالب أمر البحث والتنقيب الذى قد ينفعه فى تهذيب نفسه تهذيبا منظما " .
   تبديل روح الأساتذة ثم روح الأبوين فروح التلامذة ، والذى يجب تغييره هو روح الأساتذة على الخصوص .

   ولماذا يجب تبديل نفسية الأبوين ونفسية الطلاب بعد تبديل نفسية الأساتذة ؟     لأنهم لا يطالبون الأساتذة إلا بتهيئة الفتيان لاجتياز الامتحان ، وأسهل طريقة عندهم للنجاح فى الامتحان هى حفظ سلسلة من الكتب الموجزة عن ظهر القلب ، وإن كانت الكتب الموجزة لا تمنح الفتيان سوى معارف مؤقتة غير ثابتة .

   والأساتذة القليلون الذين يرجحون طرق التعليم التجريبية المغذية للروح يقصون عن مهنة التدريس .

   التدريس ليس بالاطلاع بل بتعليم الطالب كيف يتطلع ، وليس بالاستظهار بل يجعل التلميذ قادرا على الاختيار والتفكير والعزم والسير .

   ولا تغير الحوادث شيئا من عقول أساتذتا ، فهم لا يرون فيها غير الحيف والجور ، وهى لا تؤدى إلا إلى مقتهم المجتمع الحاضر الذى يعدون أنفسهم من ضحاياه .

     التربية هى تحويل الشعورى إلى غير شعورى ،


   العلم والصناعة ساقا العالم إلى طورأصبح فيه لبعض الصفات الخلقية شأن كبير فى حياة الأمم ، وأن الذين سيقبضون على زمام العلم والصناعة والتجارة هم الرجال المتصفون بملكة الاستنباط والاختبار وقوة الإرادة وصحة التمييز وضبط النفس ، وهذه صفات لا تؤدى طرقنا التهذيبية الرسمية إلى تزييننا بها .    

روح السياسة 10

روح السياسة 10

العوامل النفسية فى المعارك الحربية

   والحادثة إذا ما تكرر ظهورها بانتظام مستمر تكون بنت ضرورات مهيمنة ، تنازع الشعوب أكثر مصادر الرقى أهمية ، وأية حضارة كبيرة لم تكن مشبعة من الروح الحربية ؟ 
وأى شعب سلمى مثل دورا فى التاريخ ؟

   أهمها الغريزة الطبيعية التى تقود الأقوياء إلى القضاء على الضعفاء ، أجل تخفف الحضارة شيئا من صولة تلك الغريزة .

   مساوئ الحرب ثلاث : ضياع المال وفقد الرجال وضعف الشعب ،

 وكل يعلم أنه متى يظهر ضعف أمة تصبح فريسة الأمم القوية المجاورة لها .

   لا تخلو الحروب أيضا من منافع ، ومن المنافع التى تمن بها الحروب هو منحها الشعوب روحا قومية ، فبالحروب تتكون تلك الروح وتستقر ، ومن الأمور المعلومة أنه لا حضارة للشعوب بدونها .

   والحروب توطد دعائم الروح القومية عند النصر وتزيدها قوة عند الهزيمة ، فالروح الحربية هى الدعامة الأخيرة التى تستند إليها مجتمعات الزمن الحاضر .

   البحث فى منافع الحروب ومساوئها ليس له سوى فائدة نظرية ، فأمر اخيارها لا يقع تحت قدرتنا ، ونحن نكابدها من غير أن يكون لنا تأثير فى ذلك ، وأحسن وسيلة للاستعداد لما قد يحدث من منازعات وحروب هو تعميم الروح العسكرية بين أفراد هذه الأمة فهذه الروح هى سر القوة فى الجيوش .

    والحرب هى أمر نفسى ، قال نابليون : " يتوقف مصير الحرب على مقدار قوة الجيش المعنوية ، فالقوة المعنوية نصف الحقيقة " .

   أجمع الكتاب الحربيون على أن هنالك حدا لما يتحمله الجيش من خسارة ، فقد أثبتت التحارب منذ قرون أن الجيش متى يفقد عشرين فى المائة من أفراده يعد نفسه مغلوبا ، وهذه النسبة هى ما نسميها الحد المخل بالقوة المعنوية .


   روح الجيش والقيادة الذى ألفه القائد " غوشيه " . 

روح السياسة 9

روح السياسة 9

   ضعف الحكومة هو سبب زيادة الفوضى بين الجموع .

   شبح الخوف رهيب إلى الغاية ، ويشتد رهبة عندما ينضم إليه شبح الحقد وشبح الحسد وهذه الأشباح الثلاثة هى التى تدير سياستنا فى الوقت الحاضر .

   الجماعات لا تشكر من تنال منه شيئا بقوة الوعيد والتهديد .

   الحكومية – ومنها تنبت الاشتراكية بحكم الطبيعة – دين الشعوب اللاتينية القومى . فمع أن لويس الرابع عشر مات منذ عهد طويل حافظت الحكومة على أساليبه ومبادئه، وأفرطوا فى تطبيق طريقته فى المركزية ونهجه فى الحكم المطلق

   يثبت ما دلت عليه اللجنة من الأمور نقادرعدم اللامبلاة التى بها يدير الموظفون مشروعات الدولة ، فلو أن المشاريع الخاصة أديرت بمثل ذلك الإهمال لأصابها الإفلاس فى وقت قصير ، 

فلما انشئت درج لبناء المطبعة ظهر أنها قليلة التزويق فهدمت لإعادة إنشائها ، ولما بلطت أرضية البناء ووصل بين أجزائها بملاط محكم قال مدير ديوان المطبعة – وهو مبتلى بالرثية - : إن ذلك الملاط يقرس الأرجل ويوجب التهابا فى قصبة الرئة ، فنقضت الأرضية على الفور ، وفرشت بخشب لم يلبث أن ظهر أنه من جنس ردئ فبدل به غيره ،
 ثم لما ابتيعت آلات بثمن غال وغاب عن الفكر إحداث خنادق لها هدم قسم من البناء ، وهكذا خسر بيت المال ملايين كثيرة من الفرنكات على مرأى فريق من الموظفين من غير أن يحرك ذلك ساكنهم .

    عدم الاكتراث هو المبدأ الحقيقى لكل دائرة حكومية .

    الإنسان إذا أعفى من التبعية ولم يكلف الاستنباط لا تلبث قيمته الذهنية وقدرته على الإنتاج أن تهبطا هبوطا عظيما .

   ملكة الاستنباط التى هى مصدر القوة فى الأمة ، التوظيف عنوان الحكومية ودعامتها .

    وما يجب أن يعمل لتحسين الحالة هو أن تسير الحكومة على عكس ما تقاد إله الآن ، فنحجم عن سن نظام يجعل الموظفين دائمين لا يعزلون .

    فهل من مخزن كبير أو مصنع عظيم يمنح مستخدميه نظاما يضمن لهم بعض  الامتيازات ؟  


أنه يحافظ عليهم ما داموا أكفاء وإلا فإنه يقصيهم عن العمل ، وعلى الحكومة أن تعاقد المستخدمين إلى مدد لا تزيد على بضع سنوات فى الأمور الفنية وحدها كمسائل الهندسة والبرق ...

روح السياسة 8

روح السياسة 8


   وشأن العقل فى جميع الانقلابات التى حدثت ببطء ضعيف إلى الغاية ، وقد اطلع على ذلك قادة التاريخ الحقيقيون ، فلم يسعوا فى التأثير فى عقول البشر ، بل فى نفوذ مشاعرهم وكسب قلوبهم .

    والتجربة وحدها التى تؤثر فى أصحاب النفوس المتهوسة ، قوانين جوائز البحرية التجارية – تكلف هذه القوانين بيت المال واحد وأربعين مليون فرنك كل سنة ، غير أنها تعجل انحطاط بحريتنا وتروج الشركات الألمانية .

    " تعلمون أن الحكومة الفرنسية تدفع جوائز إلى أصحاب البواخر حسب المسافة التى تقطعها ، وإن كانت غير مشحونة ، ومعنى ذلك أنها تطوف حول الأرض على حساب الميزانية الفرنسية .   
  إن بواخر فرنسية ترفض الشحن طمعا فى اكتساب الوقت ، لأنها ترى أن الغدو والرواح فارغة أفيد لها من أن تكون مشحونة .          

ومما ألمح إليه المسيو ( بلاته ) أن بعض الألمان طلبوا جوائز للمساواة بينهم وبين من ينالون جوائز فى فرنسا ، فرفض مديرو الشركات الكبيرة ذلك " لأنهم يعدون الجوائز قضاء على ملكة الاستنباط والنشاط فى ألمانيا وإنذارا بزوال حريتها .

   قانون نزع أملاك المحافل الدينية – مع أن الحكومة كانت تطمع فى دخل مليار فرنك من نزع تلك الأملاك لم تنل غير عشرة ملايين ، ثم أن القانون المذكور ألجأ الكومة إلى إنشاء عدد كبير من المدارس والمؤسسات الصحية ، فصارت تنفق كل سنة مئات من الفرنكات بدلا من المليار فرنك الذى كانت ترجو قبضه .  

 وقد أدى هذا القانون المنافى للأدب والذوق إلى نتائج اجتماعية مضرة كإيراثه سخط ألوف من أبناء الوطن ، وتقويته للمبدأ الاشتراكى القائل إن الحكومة تستطيع بوضعها قانونا أن تستولى على أملاك الأفراد ومصانعهم ، وأوجب نزع أملاك إحدى طبقات الشعب غيظا فى الأمم الأجنبية وتشويها لسمعتها .

   قوانين جوائز صنع السكر – ألغيت هذه القوانين بعد أن كلفت بيت المال عدة ملايين من الفرنكات ومن نتائجها زيادة انتاج السكر فى بلادنا زيادة غير طبيعية ، وبيع صانعيه له فى فرنسا بثمن أعلى خمس مرات مما كانوا يبعيونه فى انجلترا ، وجمعهم ثروة وافرة من المستهلكين .

   قانون حرية فتح القهوات والحانات وبيع المسكرات – لم يكلف هذا القانون الدولة شيئا فى الظاهر ولكنه أخر الوطن بتأديته إلى زيادة تعاطى المسكرات ، وتفشى الامراض ونهك القوى .  

   قال المسيو ( دولومبر ) حديثا : " فى كل مرة تحتكر بلدية باريس مشروعا بنقص دخل ذلك المشروع ، وتزيد رواتب مستخدميه ونفقاته الثانوية .

   قوانين معالجة أزمة الكروم فى جنوب فرنسا – تثبت هذه القوانين أن المشترع لا يقدر على مكافحة مقتضيات الطبيعة ، وإليك البيان : زاد سكان جنوب إنتاح الخمر بعد أن أفرطوا فى غرس الدوالى ، وماذا عليهم أن يفعلوا إزاء هذه الحال ؟ يجب أن يقتدوا بزارع  الفوة الذين عدلوا بعد اكتشاف حمرة الفوة عن زرع الفوة غارسين فى مكانها أشجارا أخرى ، ومن حسن الحظ أن الناس أيام اكتشاف تلك الحمرة كانوا قليلى الاتكال على الحكومة ، فلم يلجأوا إلها لتقضى على صنع حمرة الفوة الرخيصة فى سبيل عروق الفوة الغالية ، والآن لما تحول الناس باتشار المذهب الحكومى بينهم طالب سكان الجنوب الحكومة بابتياع ما لم يشتره الجمهور من الخمر أى منحهم جوائز تعويض فأجابتهم الحكومة إلى رغباتهم ، وسيظل تاريخ أزمة الجنوب مثالا خالدا على أفكار أمة أينع المذهب الحكومى فيها ، وبهذه المناسبة أذكر أن أزمة كتلك لا تقع فى انجلترا وأمريكا ، حث تعود الأفراد الاعتماد على نشاطهم الشخصى لا الحكومة .


   الاوهام أكثر حوادث الماضى العظيمة ، و يدلنا درس التاريخ درسا دقيقا عل أنه عبارة عن مساعى الأمم والشعوب فى خلق أوهام وتبديد أخرى .    

 وأن السياسة فى الماضى والحال لم تكن سوى تنازع الأوهام ، ولكن الأوهام غير متساوية فى قدرتها ، فهى متسلسلة المراتب تسلسلا يدفعنا إلى تصنيفها .

   نشأت تلك الأوهام الصغيرة الباطلة عن وهم أبدى ثابت أى الخوف ، يعرف اقطاب السياسة تأثير الخوف وما يحدثه فى النفوس من الأوهام ، فيقدرون بدهائهم على الانتفاع به وأما قصار النظر من الساسة فإنهم يكابدونه .

روح السياسة 7

روح السياسة 7

العوامل الفكرية فى عالم السياسة

    والقول أن القوانين تصلح المجتمع هو من أعظم الأغلاط التى سجلها التاريخ .

    تكوين أحد الحقوق لا يتم إلا إذا اجتاز ثلاث مراحل : وهى العادة والقضاء والقانون ، لا تكون مداخلة المشترع مفيدة إلا فى المرحلة التالثة أعنى مرحلة القانون ، فلو دققنا فى قانوننا المدنى – وقد زعم الكثيرون أنه من مبتكرات مجلس الفقهاء الذى كان يرأسه نابليون – لرأيناه عبارة عن عادات فرنسية جمعت على شكل قانون ، وأنه الطور الأخير لانتحاء بلادنا نحو الوحدة القضائية ، أى أنه بالحقيقة قانون الحال بل قانون الماضى .

    والعادة تنشأ عن مقتضيات الاجتماع اليومية صناعية كانت أم اقتصادية ، والقضاء يعينها والقانون يؤيدها ، وما يويده القانون فهو طور الحال الاجتماعى .

    ولولا القضاء الذى يسير مع تقلبات العادة لأصبح القانون ظالما فى نهاية الأمر ، فالقضاء على الخصوص هو الذى يحرر زوجة النوتى الذى انقطع خبره فى سياحة بعيدة من الترمل الأبدى الذى يأمر به القانون عندما يتعذر عليها إبراز وثيقة خطية دالة على وفاة زوجها .

    بمثل تلك الأمور تتضح كيفية تكوين القوانين ، ويتجلى الشأن الحقيقى للمشترع ، فعلى المشترع أن يقتصر على تأييد القوانين بعد أن تظهرها العادة ويعين القضاء حدودها ، وكل قانون يصدر فجأة من غير أن يجتاز هاتين المرحلتين محكوم عليه بالإخفاق .

    ولنورد مجلسنا الشورى – الذى يزيد كل يوم سلطة أكثر من ذى قبل – مثالا على حقوق جديدة تتكون الآن بفعل العادة وتأثير القضاء ، كان هذا المجلس فيما مضى عبارة عن هيئة أدارية ذات واجبات لا أهمية كبيرة لها ، فصار بالتدريج ذا سلطة تنحنى أمامها جميع السلطات ، إذ أصبح يأتى بأحكام قاطعة غير تابعة للاستئناف فى أمور مختلفة كنقض قرارات الولاة وأوامر الوزارة وإعادة ضباط البحرية المعزولين إلى وظائفهم وعزل المأمورين المعينين .

   وما هو مصدر تلك السلطة ؟

مصدرها العادات التى هى بنت الضرورة ، واتى عين القضاء حدودها ، وما تخيل مجلس الشورى أن يتطاول على بقية السلطات ، وإنما الجمهور هو الذى ألجأه إلى ذلك لرغبته فى تقييد أمواء الوزراء وسائر رجال الإدارة ، ولاشتياقه إلى إيجاد قوة تحميه ضد الفوضى العامة . 

 وفضلا عن ذلك تتدرج جميع النظم الديمقراطية إلى تكوين سلطات عليا لتكون عنوانا للاستقلال والثبات كمحكمة الولايات المتحدة العليا التى يظهر أن مجلسنا الشورى سيكون له ما لها من الشأن بعد قليل من الزمن ، ومما يبرر ما قلناه هنا فى تكوين الحقوق وظهور تلك السلطات ظهورا غريزيا هو أنه مع أنها لا تستند فى قوتها إلى نص قانونى ولم يدعمها نظام تكتسب به ما لا يتيسر للقوانين المحررة الصريحة من نفوذ وسلطان .

    ومثل ذلك يشاهد فى انجلترا أيضا ، ففى هذه المملكة لا تستند مبادئ الحكم الأساسية إلى مواد قانونية ، وليس فيها قانون يأمر بقسمة البرلمان إلى مجلسين ، وبتفويض سن القوانين إليهما ويجعل الملك يحكم البلاد بواسطة وزراء مسئوليين ... الخ ، وهى مع أنها عاطلة من دستور مكتوب تعد عنوان الحكومات الدستورية ، وقد صارت بالتدريج جمهورية يرأسها ملك ، وإذا استثنينا جمهورية الولايات المتحدة رأينا جميع جمهوريات العالم لا تدانيها حرية .

    نسير منذ قرون كثيرة حسب دستور غير مكتوب ، أجل عندنا أنظمة مكتوبة خالدة كدستور ( ماجنا كارتا ) ولكننا لو نظرنا إلى نا فى بالدنا من حرية وعادات دستورية لرأيناها لم تقترن حتى الآن باستحسان خطى قاطع من قبل الملك أو مجلس اللوردات أو مجلس النواب ، فنحن نعيش تحت سلطان العرف والعادة والمواثيق التى فقمت شيئا فشيئا فأصبحت محترمة لدى الجميع على مر الزمن .

   كل شئ فى انجلترا يناقض مبادئنا فى النظام والعقل والقياس والمنطق ، وتتآلف حقوقها من عناصر ومقومات هى غاية فى التباين ، قال الوزير ( شامبرلن ) فى البرلمان الانجليزى : " أن أعظم مزية تتصف بها أنظمتنا هو أنها غير منطقية " فأكرم به من تصريح بعيد الغور ، لأن القوانين إذا استغنت عن قواعد المنطق فلأنها وليدة مشاعر ناشئة عن ضرورات مستقلة عن العقل .

   ومن سوء الحظ بقاؤنا بعيدين من مثل هذه الأفكار غير منتفعين بالتجارب ، أفلم يحن الوقت الذى نعدل فيه عن الاشتراع والتنظيم والإصلاح باسم ذلك العقل الأعمى الذى لايعرف مقتضيات الاقتصاد وكل ضرورة ؟ فالحقوق لا تصنع وإنما هى تصنع نفسها .

   القانون عنوان مؤقت لحقوق تتجدد بلا انقطاع ، فالحياة الاجتماعية لا ينتظم أمرها بمراسيم يقترحها الخياليون، بل بتأثير مقتضيات الاقتصاد وأخلاق الشعوب .

    التوفيق فى القوانين والجمع بين عادات أثبت الاستعمال أمرها ، فالقوانين التى يقال إنها حديثة لا تفعل بالحقيقة سوى تأييدها عادات وجدت مقدما .  


   نرى أهم الحوادث التاريخية صدرت عن علل بعيدة صغيرة مرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا ، فمن تجمع العلل الصغيرة تخرج أكبر النتائج ،

 ومن هذه العوامل المعدودة بالألوف والخافية لصغرها تتجه نحو جهة واحدة حسب نواميس دقيقة كالتى تجعل أحد الاجرام يسير على خط معين ، أو كالتى تتحول بها ثمرة البلوط إلى سنديانة ، 

وبعد ان يقع انتحاء الععوامل الصغيرة اليومية على هذا الوجه تتولد منها مجار ضعيفة سهل تحويلها فى بدء الأمر صعب اعتراضها عندما تزيد قوتها فى آخره ، وحينئذ تنكسر الحواجز الاجتماعية ، وينقلب تطور الشعب إلى ثورة . 

01‏/05‏/2016

روح السياسة 6

روح السياسة 6

    تكوين كل حادثة يتم بفعل كثير من العوامل المتفاوتة فى أهميتها ، فشأن روح السياسة عبارة عن تعيين أهمية هذه العوامل ، وتمييز الأساسى بينها وطرح الثانوى منها .

    المبادئ السياسية تتضعضع بفعل كثير من العوامل غير المنتظرة على الدوام ، فعلى هذا الوجه نرى فى بعض الأوقات اختفاء تأثير بعض العوامل المألوفة إزاء جريان مفاجئ فى الآراء ،

وقد أدرك نابليون ذلك فقال : " إن جريان الأمور هو الذى يتكلم واتجاه الرأى العام هو الذى يقوده ، وما كنت يوما سيد نفسى ، فالاحوال هى التى كانت تسوقنى فى كل وقت .

    و" الأمير" الذى  حكىى عنه " ماكيافيللى " يسمى اليوم " الجماعة " ، وتصبح قدرة الجماعة مخيفة  عندما تتجه جميع العزائم نحو غرض واحد ، وإن كان هذا الاتجاه لا يدوم طويلا ، فعلى رجال السياسة أن يعلموا ذلك .                 

      وفى الغالب لا يفقه رجال أحد الأدوار ما قد يحدث فى دورهم من جريان فى آراء الشعب .

    ولا يحسن المرء معرفة أبناء طبقة إلا إذا كان من تلك الطبقة ، وهذا هو السر فى أن زعماء " اتحاد العمال " الذين هم من طبقة العمال يعرفون كيف يجعلون هؤلاء يطيعونهم كما يجب .

   عوامل التحول فى إحدى الحادثات الاجتماعية أكثرها تأثيرا أشدها خفاء ، فمن مجموعها تتكون حزمة من قوى خفية تقود مقادير الشعب .


    وعليه نرى لروح السياسة فائدتين أخريين :
 فائدة كشف العاقبة ، وفائدة نيل المقصد ،
فبهاتين الفائدتين تبطل عمل مفاجآت المستقبل وتأثيرها .  

روح السياسة 5

روح السياسة 5

    تقدم علم النفس فى الوقت الحاضر يثبت لنا ما للعقل من الشأن الضعيف فى نظام المجتمعات ومعتقداتها وسيرها ، وأن شأن أقطاب السياسة ينحصر فى معرفة مداراة المشاعر للتأثير فى الرأى العام ، فالجماعات لا تتأثر من انسجام الخطب المنطقى أبدا بل مما تورثه بعض الكلمات فى نفوسهم من صور عاطفية .

   إن لم يكن للثورة الفرنسية عالم نظرى من أرباب التأثير والنفوذ سوى ( جان جاك روسو ) .
   إن الناس فى كل جيل مسيرون بمبادئ قليلة تكونت ببطء ، وأن تلك المبادئ لم تبعث على السير والحركة إلا بعد أن تحولت إلى مشاعر .

    الخراب لا الغنى هو الذى يعقب الفوضى ، وحينئذ تبحث الأمة مثلما بحثت فى تلك الثورة عن حاكم مطلق نشيط قادر على إنقاذها من براثن الارتباك وقلة النظام . فالعقل قوام العلم والمعارف فقط ، وإنما المشاعر والمعتقدات هى التى تقود الناس للتاريخ .

    أصعب شئ فى روح السياسة هو أن نكتشف العوامل البعيدة والقريبة للحوادث تقوم الاشتراكية قبل كل شئ على مبدأ الأمل ، والأمل من أهم بواعث الحركة التى عرفها البشر فى كل حين .

    إن الشعور الدينى – أى احتياج المرء إلى الخضوع لأحكام ايمان يكون دليل أفكاره وخواطره – هو أحد مناحى الروح البشرية .     


عامل روح الجماعات وعامل العدوى النفسية الذى نفسر به ذيوع المعتقدات الكبيرة عند ظهورها .

     المشاهدة لا التجربة هى دليل العالم الاجتماعى فى الحوادث الاجتماعية ، نعم إن التجارب الاجتماعية ليست قليلة إلا أنها تقع دون أن يكون لنا شأن فى حدوثها ،

 ونحن لعجزنا عن تكريرها ترانا مضطرين إلى ايضاح أمرها فقط ، وكل يعلم ما توجبه هذه الإيضاحات من اختلاف فى الرأى ونقص فى اعتبار علم الاجتماع .


     سكان الولايات المتحدة ومستقبلهم أخلاقهم السياسية كانشاط والاعتماد على المجهود الشخصى والتفاؤل والاحتياج إلى الحرية الفردية وتعود الاستنباط الشخصى الذى يغنى عن تدخل الحكومة ، 

فأدركنا وجوب درس الأمريكى مستقلا عن حكومته لا درس هذه الحكومة أولا للإطلاع على حقيقته ، فالأمريكى لما ألقى حبله على غاربه تقدم فى معترك الحياة غير معول على أحد مقررا مصير نفسه بنفسه .