15‏/11‏/2015

الموافقات 10

الموافقات 10




وأما ما يقتضي القصد إلى الترك على الخصوص؛ فجميع ما تقدم من ذم [التنعمات]1 والميل إلى الشهوات على الجملة، وعلى الخصوص قد جاء ما يقتضي تعلق الكراهة في بعض ما ثبتت له الإباحة؛ كالطلاق السني2؛ فإنه جاء في الحديث وإن لم يصح: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" 3، ولذلك لم يأتِ به صيغة أمر في القرآن ولا في السنة كما جاء في التمتع بالنعم، وإنما جاء مثل قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229].
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].

ولا شك أن جهة البغض في المباح مرجوحة1.
وجاء: "كل لهو باطل إلا ثلاثة" 2.
وكثير من أنواع اللهو مباح، واللعب أيضا مباح، وقد ذم.
فهذا كله يدل على أن المباح لا ينافي قصد الشارع لأحد طرفيه على الخصوص دون الآخر، وذلك مما يدل على [أن]3 المباح يتعلق به الطلب فعل وتركًا على غير الجهات المتقدمة1.

: إذا ثبت أن المباح عند الشارع هو المتساوي الطرفين؛ فكل ما ترجح أحد طرفيه؛ فهو خارج عن كونه مباحا، إما لأنه ليس بمباح حقيقة وإن أطلق عليه لفظ المباح، وإما لأنه مباح في أصله, ثم صار غير مباح لأمر خارج،
وأما التفصيلي؛ فإن المباح ضربان:
أحدهما: أن يكون خادما لأصل ضروري، [أو حاجي]4، أو تكميلي.
والثاني: أن لا يكون كذلك.
فالأول: قد يُراعى من جهة ما هو خادم له؛ فيكون مطلوبا ومحبوبا5 فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوها مباح في نفسه، وإباحته بالجزء6، وهو خادم لأصل ضروري، وهو إقامة الحياة؛ فهو

مأمور به من هذه الجهة، ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب؛ فالأمر به راجع إلى حقيقته1 الكلية، لا إلى اعتباره الجزئي ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد، لا من حيث هو جزئي معين.
والثاني: إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا من الأصول الثلاثة المعتبرة، أو لا يكون خادما لشيء كالطلاق2؛ فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكلي إقامة النسل في الوجود، وهو ضروري، ولإقامة مطلق الألفة والمعاشرة، واشتباك العشائر بين الخلق، وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما، فإذا كان الطلاق بهذا النظر خرما لذلك المطلوب ونقضا عليه؛ كان مبغضا، ولم يكن فعله أولى من تركه؛ إلا لمعارض أقوى؛ كالشقاق, وعدم إقامة حدود الله, وهو من حيث كان جزئيا في هذا الشخص، وفي هذا الزمان مباح وحلال، وهكذا القول فيما جاء من ذم الدنيا، وقد تقدم،
وكذلك اللهو واللعب والفراغ من كل شغل إذا لم يكن في محظور ولا يلزم عنه محظور فهو مباح، ولكنه مذموم

ولم يرضه العلماء1، بل كانوا يكرهون أن لا يرى الرجل في إصلاح معاش، ولا في إصلاح معاد؛ لأنه قطع زمان فيما لا يترتب عليه فائدة دنيوية ولا أخروية.

وفي الحديث: "كل لهو باطل إلا ثلاثة" 3، ويعني بكونه باطلا أنه عبث أو كالعبث، ليس له فيه فائدة ولا ثمرة تجنى، بخلاف اللعب مع الزوجة؛ فإنه مباح يخدم أمرا ضروريا وهو النسل، وبخلاف
تأديب الفرس، وكذلك اللعب بالسهام؛ فإنهما يخدمان أصلا تكميليا وهو الجهاد4، فلذلك استثنى هذه الثلاثة من اللهو الباطل، وجميع هذا بين أن المباح من حيث هو مباح غير مطلوب الفعل ولا الترك بخصوصه5

الموافقات 9

الموافقات 9




المجتهد إنما يتورع عند تعارض الأدلة، لا عند تعارض الأقوال


القسم الثاني: كتاب الأحكام
مدخل

كتاب الأحكام: 2
والأحكام الشرعية قسمان: أحدهما يرجع إلى خطاب التكليف3 والآخر يرجع إلى خطاب الوضع؛ فالأول ينحصر في الخمسة؛ فلنتكلم على ما يتعلق بها من المسائل، وهي جملة:


القسم الأول: خطاب التكليف
المسألة الأولى 1: [ في المباح ]2
أحدها:
أن المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك، من غير مدح ولا ذم، لا على الفعل ولا على الترك،
إجماع المسلمين على أن ناذر ترك المباح لا يلزمه الوفاء بنذره

وفي الحديث: "أن رجلا نذر أن يصوم قائما، ولا يستظل، فأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجلس، وأن يستظل، ويتم صومه"4. قال مالك: أمره -عليه السلام- أن يتم ما كان لله طاعة، ويترك ما كان لله معصية؛ فجعل5 نذر ترك المباح معصية6 كما ترى7.

4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، 11/ 586/ رقم 6704" من حديث ابن عباس, رضي الله عنه.
5 حمل المؤلف كلام مالك على ترك المباح وهو الجلوس والاستظلال؛ فقال ما قال، ولكن في الحديث الصحيح في مثله ما يفيد أن الفعل نفسه تعذيب للنفس، وهو حرام؛ حيث يقول: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني"؛ فهو نذر لفعل المعصية مباشرة لا بواسطة ترك المباح

الترك عند المحققين فعل من الأفعال الداخلة تحت الاختيار
وأيضا؛ القاعدة أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال أو بالتروك بالمقاصد5
أن الكلام في أصل المسألة إنما هو في المباح من حيث هو مباح متساوي الطرفين2، ولم يتكلم فيما إذا كان ذريعة إلى أمر آخر، فإنه إذا كان ذريعة إلى ممنوع؛ صار ممنوعا من باب سد الذرائع، لا من جهة كونه مباحا,

وأيضا3؛ فقد يتعلق بالمباح في سوابقه أو لواحقه أو قرائنه ما يصير به غير مباح، كالمال4 إذا لم تؤد زكاته،


والثاني:
أنا إذا نظرنا إلى كونه وسيلة؛ فليس تركه أفضل بإطلاق, بل هو ثلاثة أقسام:
قسم يكون ذريعة إلى منهي عنه؛ فيكون من تلك الجهة مطوب الترك.
وقسم يكون ذريعة إلى مأمور به؛ كالمستعان به على أمر أخروي؛ ففي الحديث: "نعم المال الصالح للرجل الصالح" 6، وفيه: "ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلا والنعيم المقيم..." إلى أن قال: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" 1، بل قد جاء أن في مجامعة الأهل أجرا، وإن كان قاضيا لشهوته؛ لأنه يكف به عن الحرام2، وذلك في الشريعة كثير؛ لأنها لما كانت وسائل إلى مأمور به؛ كان لها حكم ما توسل بها إليه.
وقسم لا يكون ذريعة إلى شيء؛ فهو المباح المطلق، وعلى الجملة، فإذا فرض ذريعة إلى غيره؛ فحكمه حكم ذلك الغير، وليس الكلام فيه.


والصواب في الجواب أن تناول المباح لا يصح أن يكون صاحبه محاسبا عليه بإطلاق، وإنما يحاسب على التقصير في الشكر عليه؛ إما من جهة تناوله واكتسابه، وإما من جهة الاستعانة به على التكليفات، فمن حاسب نفسه في ذلك وعمل على ما أمر به؛ فقد شكر نعم الله، وفي ذلك قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} إلى قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32].
أي: لا تبعة فيها، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } [الانشقاق: 7-8].
وفسره النبي -عليه السلام- بأنه العرض2، لا الحساب الذي فيه مناقشة.

وعذاب، وإلا؛ لم تكن النعم المباحة خالصة للمؤمنين يوم القيامة، وإليه يرجع قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6].

حكايات الأحوال بمجردها غير مفيدة في الاحتجاج.

كما كانت عائشة -رضي الله عنها- يأتيها المال العظيم الذي يمكنها به التوسع في المباح، فتتصدق به، وتفطر على أقل ما يقوم به العيش3
كما جاء أن عمر بن الخطاب لما عذلوه في ركوبه الحمار في مسيره إلى الشام، أتي بفرس, فلما ركبه فهملج4 تحته؛ أخبر أنه أحس من نفسه فنزل عنه، ورجع إلى حماره1، وكما جاء في حديث الخميصة ذات العلم، حين لبسها النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرهم أنه نظر إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنه2، وهو المعصوم -صلى الله عليه وسلم- ولكنه علم أمته كيف يفعلون بالمباح إذا أداهم إلى ما يكره، وكذلك قد يكون المباح وسيلة إلى ممنوع؛ فيترك من حيث هو وسيلة،
4 أي: سار سيرا حسنا سريعا.


- ومنها: أنه قد يترك المباح لأنه لم تحضره نية في تناوله؛ إما للعون به على طاعة الله، وإما لأنه2 يحب أن يكون عمله كله خالصا لله، لا يلوي فيه على حظ نفسه من حيث هي طالبة له، فإن من خاصة عباد الله من لا يحب أن يتناول مباحا لكونه مباحا، بل يتركه حتى يجد لتناوله قصد عبادة، أو عونا على عبادة، أو يكون أخذه له من جهة الإذن لا من جهة الحظ؛ لأن الأول نوع من الشكر بخلاف الثاني، ومن ذلك أن يتركه حتى يصير مطلوبا؛ كالأكل والشرب ونحوهما؛ فإنه -إذا كان لغير حاجة- مباح كأكل بعض الفواكه، فيدع التناول إلى زمان الحاجة إلى الغذاء، ثم يأكل قصدا لإقامة البنية، والعون في الطاعة، وهذه كلها أغراض صحيحة، منقولة عن السلف, وغير قادحة في مسألتنا.


، وقد نقل مثل هذا عن عائشة حين أُتيت بمال عظيم فقسمته، ولم تبق لنفسها شيئا, فعُوتبت على تركها نفسها دون شيء، فقالت: "لا تُعنِّيني2، لو كنت ذكرتني لفعلت"3،

والحاصل أن التفقه في المباح بالنسبة إلى الإسراف وعدمه والعمل على ذلك مطلوب، وهو شرط من شروط تناول المباح، ولا يصير بذلك المباح مطلوب الترك، ولا مطلوب الفعل؛

قال الفضيل بن عياض: "جُعل الشر كله في بيت، وجُعل مفتاحه حب الدنيا، وجُعل الخير كله في بيت، وجُعل مفتاحه الزهد"2.

"الزهد حال من أحوال النفس، وهو خلوص القلب من شائبة الحرص على ملاذ هذه الحياة, بحيث لا يستخفه الفرح عند حضورها، ولا يضطرب حسرة عند فواتها،
، وفي الحديث: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه" 3.

3 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 108" من حديث ابن عمر بإسناد صحيح على شرط مسلم، وسيأتي "ص480" وتخريجه هناك أوعب، والله الهادي.
وشرح شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الحديث شرحا رائعا في رسالة "شرح كلمات الشيخ عبد القادر الجيلاني" ضمن المجلد العاشر من "مجموع الفتاوى" على نقص فيها ترى تمامه في "جامع الرسائل" للشيخ محمد رشاد سالم, رحمه الله تعالى


وإذا تعلقت المحبة بالمباح؛ كان راجح الفعل.
فهذه جملة تدل على أن المباح قد يكون فعله أرجح من تركه.

الموافقات 8

الموافقات 8




المقدمة العاشرة
إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية؛ فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا، ويتأخر العقل فيكون تابعا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل1،




المقدمة الحادية عشرة
لما ثبت أن العلم المعتبر1 شرعا هو ما ينبني عليه عمل؛ صار ذلك منحصرا فيما دلت عليه الأدلة الشرعية، فما اقتضته؛ فهو العلم الذي طلب من المكلف أن يعلمه في الجملة، وهذا ظاهر؛ غير أن الشأن إنما هو في حصر الأدلة الشرعية، فإذا انحصرت؛ انحصرت مدارك العلم الشرعي، وهذا مذكور في كتاب الأدلة الشرعية

المقدمة الثانية عشرة
من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين1 به على الكمال والتمام.


وقد قالوا: "إن العلم كان في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال".
وهذا الكلام يقضي بأن لا بد في تحصيله من الرجال؛

وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات ثلاث:
إحداها:
العمل بما علم؛ حتى يكون قوله مطابقا لفعله، فإن كان مخالفا له؛ فليس بأهل لأن يؤخذ عنه،

والثانية:
أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم؛ لأخذه عنهم، وملازمته لهم؛ فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا كان شأن السلف الصالح.
فأول ذلك ملازمة الصحابة -رضي الله عنهم- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذهم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائنا ما كان، وعلى أي وجه صدر؛ فهم1 فهموا مغزى ما أراد به أولا2 حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذي لا يُعارض، والحكمة التي لا ينكسر قانونها، ولا يحوم النقص حول حمى كمالها، وإنما ذلك بكثرة الملازمة، وشدة المثابرة.
وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية؛ حيث قال: يا رسول الله! ألسنا على حق، وهم على باطل؟
قال: "بلى " .
قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟
قال: "بلى " .
قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟
قال: "يابن الخطاب! إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا " .
فانطلق عمر ولم يصبر، متغيظا، فأتى أبا بكر؛ فقال له مثل ذلك.
فقال أبو بكر: إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا.
قال: فنزل القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه؛ فقال: يا رسول الله! أَوَفَتح هو؟ قال: "نعم " . فطابت نفسه ورجع1.
فهذا من فوائد الملازمة، والانقياد للعلماء، والصبر عليهم في مواطن الإشكال؛ حتى لاح البرهان للعيان.
وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين: "أيها الناس! اتهموا رأيكم، والله؛ لقد رأيتني يوم أبي جندل2 ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرددته"3، وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال، وإنما نزلت سورة
الفتح بعد ما خالطهم الحزن والكآبة؛ لشدة الإشكال عليهم، والتباس الأمر، ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن فزال الإشكال والالتباس.

والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه3، والتأدب بأدبه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كل قرن،


وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله؛ فلذلك طريقان:
أحدهما:
المشافهة، وهي أنفع الطريقين وأسلمهما؛ لوجهين2:
الأول:
خاصية جعلها الله تعالى بين المعلم والمتعلم، يشهدها كل من زاول العلم والعلماء؛ فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب، ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة، وحصل له العلم بها بالحضرة, وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادي من قرائن أحوال، وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال، وقد يحصل بأمر غير معتاد، ولكن بأمر يهبه الله للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم، ظاهر الفقر بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه.
وهذا ليس يُنكر؛ فقد نبه عليه الحديث الذي جاء: "إن الصحابة أنكروا أنفسهم عندما مات رسول الله, صلى الله عليه وسلم"3، وحديث حنظلة الأسيدي؛ حين شكا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم إذا كانوا عنده وفي مجلسه كانوا على حالة يرضونها، فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم؛ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم تكونون كما تكونون عندي؛ لأظلتكم الملائكة بأجنحتها" 1.

وقد قال عُمر بن الخطاب: "وافقت ربي في ثلاث"2، وهي من فوائد
مجالسة العلماء؛ إذ يُفتح للمتعلم بين أيديهم ما لا يفتح له دونهم، ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم، وتأدبهم معه، واقتدائهم به؛ فهذا الطريق نافع على كل تقدير.
وقد كان المتقدمون لا يكتب منهم إلا القليل، وكانوا يكرهون ذلك، وقد كرهه مالك1؛ فقيل له: فما نصنع؟ قال: تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم، ثم لا تحتاجون إلى الكتابة، وحكي عن عمر بن الخطاب كراهية الكتابة، وإنما ترخص الناس في ذلك عندما حدث النسيان، وخِيفَ على الشريعة الاندراس.
الطريق الثاني:
مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين، وهو أيضا نافع في بابه؛ بشرطين:
الأول:
أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله؛ ما يتم له به النظر في الكتب،
والشرط الآخر1: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد2 به من غيرهم من المتأخرين،
، وروي عن النبي, صلى الله عليه وسلم: " أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض" 2، ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير، وتكاثر الشر شيئا بعد شيء

2 أخرجه الدارمي في "السنن" "2/ 114"، ونعيم بن حماد في "الفتن" "1/ 98-99/ رقم 233، 235"، من حديث أبي عبيدة، والطيالسي "رقم 228"، ومن طريقه أبو يعلى في "المسند" "2/ 177/ رقم 873"، والطبراني في "الكبير" "1/ رقم 367 و20/ رقم 91"، والبيهقي في "السنن" "8/ 159" و"الدلائل" "6/ 340" و"الشعب" "5/ 16-17/ رقم 5616" من حديث معاذ وأبي عبيدة، وأحمد "4/ 273"، ونعيم بن حماد في "الفتن" "رقم 234" من حديث حذيفة، والحربي -كما قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 251"- من حديث أبي ثعلبة، جميعهم رفعوه بألفاظ مقاربة. وأخرجه نعيم "رقم 236" موقوفا على عمر، و"رقم
237، 238"، من قول كعب، و"رقم 239" من مذاكرة أبي عبيدة وبشير بن سعيد، والداني في "الفتن" "رقم 334" عن عبد الرحمن بن سابط مرسلا. وفي أسانيدها مقال، ولها شاهد صحيح -عدا جملة باطلة في آخره- من حديث حذيفة، انظره في "السلسلة الصحيحة" "رقم 5"، وانظر: "ضعيف الجامع" "رقم 1578"، وقال "ماء": "عضوض؛ أي: يصيب الرعية فيه عسف وظلم كأنهم يعصفون عضا، والعضوض من أبنية المبالغة، وفي رواية: ملوك عضوض, وهو جمع عض بالكسر، وهو الخبيث الشرس، أي: سيئ الخلق، وفي حديث أبي بكر, رضي الله عنه: "وسترون بعدي ملكا عضوضا" ا. هـ.

07‏/11‏/2015

الموافقات 7

الموافقات 7

المقدمة التاسعة
من العلم ما هو من صُلْب ومنه ما هو مُلَح العلم لا من صلبه، ومنه ما ليس من صُلْبه ولا مُلَحه؛ فهذه ثلاثة أقسام.
- القسم الأول:
هو الأصل والمعتمد، والذي عليه مَدَارُ الطَّلَب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين، وذلك ما كان قطعيا، أو راجعا إلى أصل قطعي، والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه، ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها3؛ كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]؛ لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين،

وهي: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها، وهي أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها، وسائر الفروع مستندة إليها؛ فلا إشكال في أنها علم أصيل، راسخ الأساس، ثابت الأركان.

فإذًا لهذا القسم3 خواص ثلاث، بهن يمتاز عن غيره:
إحداها:
العموم والاطراد؛
والثانية:
الثبوت من غير زوال؛ فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخا، ولا تخصيصا لعمومها، ولا تقييدا لإطلاقها، ولا رفعا لحكم من أحكامها
والثالثة:
كون العلم حاكما لا محكوما عليه، بمعنى كونه مفيدا لعمل يترتب عليه مما يليق به؛ فلذلك انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل, أو يصوب نحوه, لا زائد على ذلك
فإذًا؛ كل علم حصل له هذه الخواص الثلاث؛ فهو من صلب العلم،

- والقسم الثاني:
وهو المعدود في ملح العلم لا في صلبه1: ما لم يكن قطعيا ولا راجعا إلى أصل قطعي، بل إلى ظني، أو كان راجعا إلى قطعي إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص
روي أن أبا يوسف دخل على الرشيد، والكسائي يداعبه ويمازحه؛ فقال
له أبو يوسف: هذا الكوفي قد استفرغك وغلب عليك.
فقال: يا أبا يوسف! إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي.
فأقبل الكسائي على أبي يوسف، فقال: يا أبا يوسف! هل لك في مسألة؟
فقال: نحو أم فقه؟
قال: بل فقه.
فضحك الرشيد حتى فحص برجله، ثم قال: تلقي على أبي يوسف فقها؟
قال: نعم. قال: يا أبا يوسف! ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق أن دخلت الدار، وفتح أن؟
قال: إذا دخلت طلقت.
قال: أخطأت يا أبا يوسف.
فضحك الرشيد، ثم قال: كيف الصواب؟
قال: إذا قال "أن"؛ فقد وجب الفعل ووقع الطلاق، وإن قال: "إن"؛ فلم يجب ولم يقع الطلاق.
قال: فكان أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي الكسائي1.
__________
1 والصواب في المسألة التفريق بين العارف بالعربية والجاهل بها؛ فيقع إن قال: "أن" بخلاف قوله "إن"، وإن كان جاهلا لم يقع شيء، أفاده الأسنوي في "الكوكب الدري" "ص471".
والقصة التي ساقها المصنف ذكرها ياقوت في "معجم الأدباء" في ترجمة الكسائي "13/ 175-176" عن المرزباني أنها مع أبي يوسف أو محمد بن الحسن على الشك.
وكتب "م" هنا في الحاشية: "السر في هذا أن "إن" بالكسرة شرطية؛ فيصير الطلاق معلقا، وبالفتح مصدرية؛ فيصير مدخولها علة لوقوع الطلاق".
فهذه المسألة جارية على أصل لغوي لا بد من البناء عليه في العلمين.
فهذه أمثلة ترشد الناظر إلى ما وراءها، حتى يكون على بينة فيما يأتي من العلوم ويذر؛ فإن كثيرا منها يستفز الناظر استحسانها1 ببادئ الرأي، فيقطع فيها عمره، وليس وراءها ما يتخذه معتمدا في عمل ولا اعتقاد، فيخيب في طلب العلم سعيه، والله الواقي.
ومن طريف الأمثلة في هذا الباب ما حدثناه بعض الشيوخ: أن أبا العباس بن البناء سئل، فقيل له: لِمَ لم تعمل إن في {هَذَانِ} من قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} الآية [طه: 63]؟
فقال في الجواب: لما لم يؤثر القول في المقول؛ لم يؤثر العامل في المعمول.
فقال2 السائل: يا سيدي! وما وجه الارتباط بين عمل إن وقول الكفار في النبيين؟
فقال له المجيب: يا هذا! إنما جئتك بنوارة يحسن رونقها، فأنت تريد أن تحكها بين يديك، ثم تطلب منها ذلك الرونق, أو كلاما هذا معناه3!

والقسم الثالث:
وهو ما ليس من الصلب، ولا من الملح: ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني وإنما شأنه أن يكر4 على أصله أو على غيره بالإبطال

كالإغراب باستجلاب غير المعهود، والجعجعة بإدراك ما لم يدركه الراسخون، والتبجح بأن وراء هذه المشهورات مطالب لا يدركها إلا الخواص، وأنهم من الخواص... وأشباه ذلك مما لا يحصل منه مطلوب

ومن هنا لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد؛ حتى يكون ريان من علم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب3، فإنه إن كان هكذا؛ خيف عليه أن ينقلب عليه ما أودع فيه فتنة بالعرض، وإن كان حكمة بالذات، والله الموفق للصواب

الموافقات 6


الموافقات 6






المقدمة الثامنة
العلم الذي هو العلم المعتبر شرعا -أعني الذي مدح الله ورسوله [صلى الله عليه وسلم] أهله على الإطلاق- هو العلم الباعث على العمل، الذي لا يُخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها، ومعنى هذه الجملة أن أهل العلم في طلبه وتحصيله على ثلاث مراتب1:

الرسوخ في العلم يأبى أن يخالفه بالأدلة المتقدمة، وبدليل التجربة العادية؛ لأن ما صار كالوصف الثابت لا يتصرف صاحبه إلا على وفقه اعتيادا3، فإن تخلف؛ فعلى أحد ثلاثة
أوجه1:
الأول: مجرد العناد، فقد يُخالف فيه مقتضى الطبع الجبلي؛ فغيره أولى، وعلى ذلك دل قوله تعالى: [ {وَجَحَدُوا بِهَا} الآية [النمل: 14]، وقوله تعالى]2: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ] } 3 [البقرة: 109] وأشباه ذلك.
والغالب على هذا الوجه أن لا يقع إلا لغلبة هوى، من حب دنيا أو جاه أو غير ذلك، بحيث يكون وصف الهوى قد غمر القلب، حتى لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا.

والثاني: الفلتات الناشئة عن الغفلات التي لا ينجو منها البشر؛ فقد يصير العالم بدخول الغفلة غير عالم، وعليه يدل -عند جماعة- قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} 4 الآية [النساء: 17]


.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 102].

والثالث: كونه ليس من أهل هذه المرتبة؛ فلم يصر العلم له وصفا،


فأما من خلا عن هذه الأوجه الثلاثة؛ فهو الداخل تحت حفظ العلم، حسبما نصته الأدلة، وفي هذا المعنى من كلام السلف كثير.


وقال الثوري: "العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شُغلوا، فإذا شُغلوا فُقدوا، فإذا فُقدوا طُلبوا، فإذا طُلبوا هَربوا"1.

على أن المثابرة على طلب العلم، والتفقه فيه، وعدم الاجتزاء باليسير منه؛ يجرُّ إلى العمل به ويُلجئ إليه، كما تقدم بيانه، وهو معنى قول الحسن: "كنا نطلب العلم للدنيا؛ فجرَّنا إلى الآخرة"2

الموافقات 5

الموافقات 5


المقدمة الرابعة 

كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية، أو لا تكون عونا في ذلك؛ فوضعها في أصول الفقه عارية.

المقدمة الخامسة 

كل مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح

ذلك الحديث بتعريفه عُمر أن جبريل أتاهم ليعلمهم دينهم؛ فصح إذًا أن من جملة دينهم في فصل السؤال عن الساعة أنه مما لا يجب العلم به "أعني: علْم زمان إتيانها"؛ فليتنبه لهذا المعنى في الحديث وفائدة سؤاله له عنها.

التخوف في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]؛ فأجابه الرجل الهُذلي بأن التخوُّف في لغتهم التنقص، وأنشده شاهدا عليه:
تخوَّف الرَّحْل منها تامِكا قَرِدا ... كما تخوَّف عودُ النَّبْعَةِ السَّفَنُ
فقال عمر: "يا أيها1 الناس! تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم؛ فإن فيه تفسير كتابكم"2.

المقدمة السادسة
وذلك أن ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبي يليق بالجمهور، وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور، وإن فُرِضَ تحقيقا.
فأما الأول؛ فهو المطلوب،
...........
"الكِبْرُ بَطر الحق وغمطُ الناس" 2؛ ففسَّره بلازمه الظاهر لكل أحد،


المقدمة السابعة
كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون [من] حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى, فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى؛ فبالتبع والقصد الثاني، لا بالقصد الأول،

وقال: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68].
قال قتادة: يعني لذو عمل بما علَّمناه2.


وقال سفيان الثوري: "إنما يُتعلَّم العلم ليُتَّقى به الله، وإنما فُضِّل العلم على غيره؛ لأنه يُتقى الله به"1.
وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس خِصال"، وذكر فيها: $"وعن علمه, ماذا عمل فيه؟"
وعن أبي الدرداء: "إنما أخاف أن يُقال لي يوم القيامة: أَعَلِمْتَ أم جَهِلْتَ؟ فأقول: علمت. فلا تبقى آية من كتاب الله آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتسألني الآمرة: هل ائتمرت؟ والزاجرة: هل ازدجرت؟ فأعوذ بالله من علم لا ينفع، [ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع]1، ومن دعاء لا يُسمع"2.
وحديث أبي هريرة في الثلاثة الذين هم أول من تُسعَّر بهم النار يوم

القيامة، قال فيه: "ورجل تعلم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نِعَمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلَّمت فيك العلم وعلَّمته، وقرأتُ القرآن. قال: كذبت، ولكن ليقال: فلان قارئ؛ فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار "1.
وقال: "إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة عالما لم ينفعه الله بعلمه" 2.

وكان رجل يسأل أبا الدرداء؛ فقال له: كل ما تسأل عنه تعمل به؟ قال: لا. قال: فما تصنع بازدياد حُجَّة الله عليك؟1.


فلا يقال: إن العلم قد ثبت في الشريعة فضله
لأنا نقول: لم يثبت فضله مطلقا بل من حيث التوسل به إلى العمل، بدليل ما تقدَّم ذكره آنفا، وإلا؛ تعارضت الأدلة، وتناقضت الآيات والأخبار،

فالحاصل أن كل علم شرعي ليس بمطلوب إلا من جهة ما يتوسل به إليه، وهو العمل.


وقال: "من تعلم علما ما يُبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا؛ لم يجد عَرف الجنة يوم القيامة".

الموافقات 4

الموافقات 4


المقدمة الأولى
إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية

المقدمة الثانية
إن المقدمات المستعملة في هذا العلم والأدلة المعتمدة فيه لا تكون إلا قطعية

المقدمة الثالثة
الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم؛ فإنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية، أو مُعِينة في طريقها، أو محققة لمناطها، أو ما أشبه ذلك، لا مستقلة بالدلالة

وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع؛ فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموعٌ يفيد العلم؛ فهو الدليل المطلوب، وهو شبيه بالتواتر3 المعنوي
،
فقد اتفقت1 الأمة - بل سائر الملل- على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس -وهي: الدين، والنفس, والنسل، والمال، والعقل- وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين, ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل عُلمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد

وبهذا امتازت الأصول من الفروع؛ إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة وإلى مآخذ معينة، فبقيت على أصلها من الاستناد إلى الظن، بخلاف الأصول؛ فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة بإطلاق، لا من آحادها على الخصوص.
فصل
وينبني على هذه المقدمة معنى آخر، وهو أن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائما لتصرفات الشرع، ومأخوذا معناه من أدلته؛ فهو صحيح يُبنى2 عليه، ويُرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به؛ لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم؛


الموافقات 3

الموافقات 3


القسم الأول: المقدمات
مقدمات المؤلف


فنحمده سبحانه والحمد نعمة منه مستفادة، ونشكر له والشكر أول الزيادة


أن أدهى ما يلقاه السالك للطريق فقد الدليل


لم أزل أقيد من أوابده، وأضم من شوارده تفاصيل وجُملا، وأسوق من شواهده في مصادر الحُكم وموارده مبينا لا مجملا، معتمدا على الاستقراءات الكلية، غير مقتصر على الأفراد الجزئية، ومبينا أصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية، حسبما أعطته الاستطاعة والمنة، في بيان مقاصد الكتاب والسنة، ثم استخرت الله تعالى في نظم تلك الفرائد، وجمع تلك الفوائد، إلى تراجم تردها إلى أصولها، وتكون عونا على تعقلها وتحصيلها؛ فانضمت إلى تراجم الأصول الفقهيه، وانتظمت في أسلاكها السَّنِية البهية؛ فصار كتابا منحصرا في خمسة أقسام:

الأول:
في المقدمات العلمية المحتاج إليها في تمهيد المقصود.

والثاني:
في الأحكام وما يتعلق بها من حيث تصورها والحكم بها أو عليها، كانت من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف.

والثالث: 

في المقاصد الشرعية في الشريعة وما يتعلق بها من الأحكام.

والرابع:
في حصر الأدلة الشرعية وبيان ما ينضاف إلى ذلك فيها على الجملة وعلى التفصيل، وذكر مآخذها، وعلى أي وجه يُحكم بها على أفعال المكلفين.

والخامس:
في أحكام الاجتهاد والتقليد، والمتصفين بكل واحد منهما، وما يتعلق بذلك من التعارض والترجيح والسؤال والجواب.


وفي كل قسم من هذه الأقسام مسائل وتمهيدات، وأطراف وتفصيلات؛
 يتقرر بها الغرض المطلوب، ويقرب بسببها تحصيله للقلوب.

ولأجل ما أودع فيه من الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفية، سميته بـ"عنوان التعريف بأسرار التكليف"، ثم انتقلت عن هذه السيماء لسند غريب، يقضي العجب منه الفطن الأريب، وحاصله أني لقيت يوما بعض الشيوخ الذين أحللتهم مني محل الإفادة، وجعلت مجالسهم العلمية محطا للرحل ومُناخا للوفادة، وقد شرعت في ترتيب الكتاب وتصنيفه، ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه؛ فقال لي: رأيتك البارحة في النوم، وفي يدك كتاب
ألفته فسألتك عنه، فأخبرتني أنه كتاب "الموافقات"، قال: فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة، فتخبرني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم1 وأبي حنيفة. فقلت له: لقد أصبتم الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مُصيب، وأخذتم من المبشرات النبوية بجزء صالح ونصيب؛ فإني شرعت في تأليف هذه المعاني، عازما على تأسيس تلك المباني، فإنها الأصول المعتبرة عند العلماء، والقواعد المبني عليها عند القدماء. فعجب الشيخ من غرابة هذا الاتفاق