22‏/10‏/2015

الموافقات 2

الموافقات 2

المقدمات

مقدمة المحقق

لما كان الكتاب العزيز هو كلية الشريعة، وعمدة الملة، وكانت السنة راجعة في معناها إليه؛ تُفَصِّل مجمله، وتُبيِّن مشكله، وتبسط موجزه؛ كان لا بد -لِمُريد اقتباس أحكام هذه الشريعة بنفسه- من الرجوع إلى الكتاب والسنة، أو إلى ما تفرع عنهما بطريق قطعي من الإجماع والقياس.
ولما كان الكتاب والسنة واردين بلغة العرب، وكانت لهم عادات في الاستعمال، بها يتميز صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ونصه وفحواه، إلى غير ذلك؛ كان لا بد -لطالب الشريعة من هذين الأصلين- أن يكون على علم بلسان العرب في مناحي خطابها، وما تنساق إليه أفهامُها في كلامها؛ فكان حذق اللغة العربية بهذه الدرجة ركنا من أركان الاجتهاد؛ كما تقرر ذلك عند عامة الأصوليين، وفي مقدمتهم الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "رسالة الأصول".



من مقدمة الشيخ عبد الله دراز على "الموافقات"
هذه الشريعة المعصومة ليست تكاليفها موضوعة حيثما اتفق لمجرد إدخال الناس تحت سُلطة الدين، بل وُضعت لتحقيق مقاصد الشارع في قيام مصالحهم في الدين والدنيا معا، وروعي في كل حُكم منها:
إما حفظ شيء من الضروريات الخمس1 "الدِّينُ، والنفس، والعقل، والنسل، والمال"، التي هي أسس العمران المرعية في كل ملة، والتي لولاها لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، ولفاتت النجاة في الآخرة.
وإما حفظ شيء من الحاجيات؛ كأنواع المعاملات، التي لولا ورودها على الضروريات لوقع الناس في الضيق والحرج.
وإما حفظ شيء من التحسينات، التي ترجع إلى مكارم ال
اخلاق ومحاسن العادات.
وإما تكميل نوع من الأنواع الثلاثة بما يُعين على تحققه.
ولا يخلو بابٌ من أبواب الفقه -عبادات ومعاملات وجنايات وغيرها- من رعاية هذه المصالح، وتحقيق هذه المقاصد، التي لم توضع الأحكام إلا لتحقيقها.

من مقدمة المحقق
لاستنباط أحكام الشريعة رُكْنَين:
أحدهما: علم لسان العرب.
وثانيهما: علم أسرار الشريعة ومقاصدها.
أما الركن الأول؛ فقد كان وصفا غريزيا في الصحابة والتابعين من العرب الخلص، فلم يكونوا في حاجة لقواعد تضبطه لهم، كما أنهم كسبوا الاتصاف بالركن الثاني من طول صحبتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعرفتهم الأسباب التي ترتب عليها التشريع، حيث كان ينزل القرآن وتردُ السنة نجوما، بحسب الوقائع مع صفاء الخاطر؛ فأدركوا المصالح، وعرفوا المقاصد التي راعاها الشارع في التشريع،

وأما من جاء بعدهم ممن لم يحرز هذين الوصفين؛ فلا بد له من قواعد تضبط له طريق استعمال العرب في لسانها، وأخرى تضبط له مقاصد الشارع في تشريعه للأحكام، وقد انتصب لتدوين هذه القواعد جملة من الأئمة بين مقل ومكثر، وسموها "أصول الفقه".
ولما كان الركن الأول هو الحذق في اللغة العربية؛ أدرجوا في هذا الفن ما تمس إليه حاجة الاستنباط بطريق مباشر مما قرره أئمة اللغة، حتى إنك لترى هذا النوع من القواعد هو غالب ما صُنف في أصول الفقه، وأضافوا إلى ذلك ما يتعلق بتصور الأحكام، وشيئا من مقدمات علم الكلام ومسائله.
وكان الأجدر -في جميع ما دونوه- بالاعتبار من صلب الأصول هو ما يتعلق بالكتاب والسنة من بعض نواحيهما، ثم ما يتعلق بالإجماع والقياس والاجتهاد
.

ولكنهم أغفلوا الركن الثاني إغفالا؛ فلم يتكلموا على مقاصد الشارع، اللهم إلا إشارة وردت في باب القياس عند تقسيم العلة بحسب مقاصد الشارع وبحسب الإفضاء إليها،


وهكذا بقي علم الأصول فاقدا قسما عظيما هو شطر العلم الباحث عن أحد ركنيه؛ حتى هيأ الله سبحانه وتعالى أبا إسحاق الشاطبي في القرن الثامن الهجري لتدارك هذا النقص
فحلل هذه المقاصد إلى أربعة أنواع، ثم أخذ يفصل كل نوع منها وأضاف إليها مقاصد المكلف في التكليف، وبسط هذا الجانب من العلم في اثنتين وستين مسألة وتسعة وأربعين فصلا من كتابه "الموافقات"، تجلى بها كيف كانت الشريعة مبنية على مراعاة المصالح، وأنها نظام عام لجميع البشر دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا إلى غير نهاية؛ لأنها مراعى فيها مجرى العوائد المستمرة، وأن اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ليس اختلافا في الخطاب الشرعي نفسه، بل عند اختلاف العوائد ترجع كل عادة إلى أصل شرعي يُحكمُ به عليها، وأن هذه الشريعة -كما يقول- خاصيتها السماح، وشأنها الرفق، تحمل الجماء الغفير؛ ضعيفا وقويا، وتهدي الكافة؛ فهيما وغبيا.

كتاب "الموافقات" الذي لو اتخذ
منارا للمسلمين بتقريره بين العلماء، وإذاعته بين الخاصة؛ لكان منه مذبة تطرد أولئك الأدعياء المتطفلين على موائد الشريعة المطهرة، يتبجحون بأنهم أهل للاجتهاد مع خلوهم من كل وسيلة، وتجردهم من الصفات التي تدنيهم من هذا

فترى فريقا ممن يستحق وصف الأمية في الشريعة يأخذ ببعض جزئياتها يهدم به كلياتها
وإن كان كجزء من وسيلة الاستنباط، يعرف به كيف استنبط المجتهدون أيضا؛ إلا أنه في ذاته فقه في الدين، وعلم بنظام الشريعة، ووقوف على أسس التشريع، فإن لم نصل منه إلى الاتصاف بصفة الاجتهاد، والقدرة على الاستنباط؛ فإنا نصل منه إلى معرفة مقاصد الشارع، وسر أحكام الشريعة، وإنه لهدى تسكن إليه النفوس، وإنه لنور يشرق في نواحي قلب المؤمن؛ يدفع عنه الحيرة، ويطرد ما يلم به من الخواطر، ويجمع ما زاغ من المدارك؛ فلله ما أفاد الشريعة الإسلامية هذا الإمام رضي الله عنه!

والغزالي من أكثر الأعلام المذكورين في كتاب الشاطبي هذا،
والعز ابن عبد السلام،و لم يصرح باسم أي كتاب من كتبه، ووجدته ينقل من كتابه "القواعد الكبرى" وقد أبهمه.
ويوازن الشيخ عبد المتعال الصعيدي بين الشاطبي في ابتداعه علم المقاصد، وبين الشافعي في ابتداعه علم الأصول؛ فيقول:
"بهذا يكون للشاطبي ذلك الفضل الكبير بعد الإمام الشافعي؛ لأنه سبق هذا العصر الحديث بمراعاة ما يسمى فيه روح الشريعة، أو روح القانون،

وذهب رشيد رضا إلى أن الشاطبي يُعد بكتاب "الموافقات" نظيرا لابن خلدون في "المقدمة".
ولكن رشيد رضا لم يقف عند التأثر بالمقاصد وإنما كان تأثير الشاطبي فيه بالغا حده بكتاب "الاعتصام"؛ لأن اتجاهه كان منصبا على الدعوة السلفية؛ فوجد في هذا الكتاب بغيته، ورأى أنه لا تنحصر فائدته في كشف البدع واستئصالها فحسب، ولكنه يتضمن أصول الدعوة السلفية التي وجه إليها هو جهوده كلها، وكانت أعماله الإصلاحية تنطلق منها.
ومن الجدير بالذكر هنا أمران:
الأول: أن الشاطبي مجدد ومصلح، وأن كتابه "الموافقات" تضمن التجديد، وكتاب "الاعتصام" تضمن الإصلاح.

والواقع أن المقارنة بين الجزء الثاني المخصص للمقاصد من كتاب "الموافقات" للشاطبي، وكتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية" للشيخ ابن عاشور تكشف عن أمرين: أولهما يتعلق بالناحية العلمية، وثانيهما بالناحية المنهجية، فما يتعلق بالناحية الأولى؛ فإن ابن عاشور خصص بحوثا خاصة للمقاصد في أبواب المعاملات، بينما الشاطبي تناول المقاصد كلها تناولا عاما.
وأما ما يتعلق بالناحية الثانية وهي الناحية المنهجية؛ فإن الشاطبي يبدأ بالكليات وينطلق منها إلى الجزئيات؛ فتراه يطرح القاعدة ثم يأتي عليها بأمثلة جزئية من فقه الفروع تطبيقا لها أو توضيحا، وبذلك ينهج منهج الأصوليين، بينما ابن عاشور يسلك عكس هذا المنهج؛ فيعالج قواعد المقاصد من منطلق الأمثلة الفرعية, فيسلك بذلك مسلك فقهاء الفروع.


بقي لنا أن ننظر في تأثر علال الفاسي بالشاطبي، لقد ظهر ذلك في كتابه الذي سماه "دفاع عن الشريعة"، والذي يعد تعبيرا عن الأفكار الأساسية لهذا الزعيم، بل تعبيرا عن المواقف العملية التي وقفها في جهوده الإصلاحية داخل المغرب الأقصى، والتي تتجاوز المغرب إلى العالم الإسلامي كله في مواجهته للحضارة الغربية والأخذ عنها.
أما جهوده الإصلاحية المتجهة داخليا إلى تغيير أوضاع العالم الإسلامي؛ فإنه يرى أن هذا التغيير لا يتم إلا بأمرين:
أولهما: إحياء حركة الاجتهاد.
وثانيهما: إصلاح الفكر السياسي
فالاجتهاد ينبغي أن تكون مقاصد الشريعة أساسه
وفي مجال الإصلاح السياسي تصبح المقاصد مجال النظر للقضايا العامة؛ كمراقبة السلطة التنفيذية، وسياسة الدولة التشريعية والاجتماعية؛ هل تسير طبقا لأحكام الشرع في تحقيق مصالح المسلمين وإبعاد المفاسد عنهم، أم لا؟

الشريعة الإسلامية مصدرها العقيدة أصلا، وليس القانون الطبيعي أو غيره مما يذكره الغربيون

وهنا مسألة... لا بد من الإشارة إليها، وهي: هل اجتمع الشاطبي مع شيخ الإسلام ابن تيمية أو تلميذه ابن القيم، وهل نظر في كتبهما؟!
والجواب عن هذا السؤال: إننا نستطيع أن نقرر بكل طمأنينة أن ابن تيمية وابن القيم لم يرد لهما ذكر ألبتة في جميع كتب الشاطبي المطبوعة، ولم أظفر بعد شدة بحث، وكثرة استقصاء إلى ما يمكننا أن نجعل هذا اللقاء ثابتا، أو في حكم الواقع، ولم أعثر للشاطبي في كتابه هذا على ذكر للحنابلة،

وبهذه المناسبة أذكر أن بعض شيوخ الشاطبي قد التقى بابن القيم؛ فها هو أبو عبد الله المقري يحكي عن نفسه أنه "لقي شمس الدين بن قيم الجوزية، صاحب الفقيه ابن تيمية".

من مقدمة بكر أبو زيد
وكان معاصرا لأعلام ثلاثة: لسان الدين بن الخطيب، وابن خلدون، وابن القباب
وأبو إسحاق: هو مؤلف غرناطة الإبداعي في كُتبه: "الموافقات" في أصول الشريعة ومقاصدها، و"الاعتصام" في السنة وقمع البدعة، و"الإفادات والإنشادات"، وجمع له بعض المعاصرين: "الفتاوى" مستخرجة من: "المعيار" للونشريسي, وهذه الأربعة مطبوعة، وله "المجالس في شرح البيوع من صحيح البخاري"، و"شرح الخلاصة لابن مالك"، وهو قيد الطبع في جامعة أم القُرى، و"عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق" وهو في فقه لسان العرب، يقال: غَسَلهُ، ويقال: ضاع في حياته، كما ضاع كتابه الآخر: "أصول النحو".
وهو -رحمة الله عليه- في مؤلفاته هذه بعيد عن طرق التأليف التقليدية، والعمل المكرور، وإنما يفترعها افتراعا، ويُبدع فيها إبداعا؛ لأنه قد اتخذ القرآن والسنة له نبراسا وإماما، وحذق "لسان العرب"؛ لغة، ونحوا، وفقها، واشتقاقا؛ بما لم يدرك شأوه من لحقه، ولم ينسج على منواله ومسلكه؛ فلا جرم كان نجما لامعا، أضاء الأمة الإسلامية في المشارق والمغارب؛ فلفت الأنظار، وعكفت على كتبه الأبصار، واستضاءت بأنوارها بصائر أهل الأمصار.

والشاطبي -رحمه الله تعالى- ينص في مقدمته على افتراعه لهذا العلم، أي: بهذا الاعتبار. كما افترع الإمام الشافعي: "علم أصول الفقه"، والخليل بن أحمد: "علم العروض"، وابن خلدون: "علم الاجتماع" في "مقدمته"، وهكذا.

الموافقات


 اسم الكتاب : الموافقات
اسم المؤلف : إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى : 790هـ)
المحقق : أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
الناشر : دار ابن عفان
الطبعة : الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م
عدد الأجزاء : 7
مصدر الكتاب : موقع المكتبة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]